كيف تصنع الأخلاق رجالًا؟
لطالما كانت الأخلاق النبيلة هي عماد الحضارات وأساس المجتمعات القوية. ومن بين أهم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام وحث عليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم الأمانة والورع. وفي رحلتنا عبر قصص التراث الإسلامي، نجد قصصًا تشرق بالضياء وتنضح بالحكمة، تُعيد تشكيل مفاهيمنا عن الصدق والنية الصافية. إحدى هذه القصص المؤثرة هي قصة التفاحة وثابت بن النعمان، والتي تحكي عن شابٍ صالحٍ اختبره الله فنجح بفضل أمانته وتقواه، ليُصبح لنا جميعًا مثالًا يُحتذى به في زمن قلّ فيه الورعون. دعونا نستعرض معًا تفاصيل هذه القصة العجيبة المليئة بالعبر والدروس.
قصة التفاحة مع ثابت بن النعمان
بداية القصة: لقاء غير متوقع مع تفاحة عابرة
في يوم مشمس من أيام الحياة البسيطة في ذلك العصر، كان ثابت بن النعمان يسير بين الحقول قرب أحد الأنهار. كان التعب قد أخذ منه مأخذًا، وكان جائعًا وعطشًا بعد رحلة طويلة من السير في طلب العلم والعمل. وبينما هو يتأمل في عظمة خلق الله من حوله، إذا بتفاحة طافية فوق صفحة الماء الرقراقة تأتي نحوه بهدوء. مدّ ثابت يده، وأخذ التفاحة دون تفكير كثير، ثم أكلها ليسد بها جوعه الذي أضناه.
لكن ما إن انتهى من أكلها، حتى هبّ ضميره الحي يوقظه: كيف يأكل مالًا ليس له؟ هل التفاحة ملك لأحد؟ وكيف يتصرف وقد أكلها دون إذن؟ هذه التساؤلات لم تدعه يرتاح، وأثارت في قلبه مخافة الله، مما دفعه لعزم أمره أن يبحث عن صاحب التفاحة، مهما كلفه ذلك من جهد، ليطلب عفوه أو يؤدي إليه حقه.
رحلة البحث عن صاحب التفاحة: اجتهاد وإصرار
لم يكن الطريق إلى تصحيح هذا الخطأ الهيّن سهلاً كما قد يتصور البعض. سار ثابت بمحاذاة النهر، يسأل المزارعين والبستانيين، ويبحث عن أي علامة تدله على البستان الذي خرجت منه التفاحة. مضى وقت طويل وهو يسأل ويجتهد، حتى دلّه أحدهم إلى بستان واسع، تملأه أشجار التفاح، يقع على مسافة ليست بالقريبة من حيث التقط التفاحة.
عند وصوله، وقف ثابت عند باب البستان يطلب مقابلة مالكه، وبعد الانتظار، خرج إليه رجل وقور يبدو عليه الهيبة والوقار. بادره ثابت بالتحية، وقصّ عليه قصته كاملة دون أن يُنقص منها شيئًا، وأكد له أنه جاء لا ليأخذ شيئًا، بل ليطلب المسامحة على أكل تفاحة واحدة فقط! تأثر الرجل من أمانة ثابت وإصراره على تطهير ذمته، وأدرك أن هذا الشاب من طينة نادرة الوجود.
اختبار صعب: عرض غير متوقع
نظر صاحب البستان إلى ثابت طويلًا قبل أن يقول له بجدية: "لن أسامحك حتى تقبل بشرط أضعه عليك." توجس ثابت قليلاً، ولكنه قال بثبات: "وما هو الشرط؟"
أجاب الرجل: "أن تتزوج ابنتي." صعق ثابت من الطلب الغريب، لكن الرجل لم يتوقف عند هذا الحد بل أكمل قائلاً: "اعلم أن ابنتي عمياء، لا ترى شيئًا، وصماء لا تسمع، وبكماء لا تنطق، ومقعدة لا تستطيع الحركة."
كان الاختبار شديدًا وثقيلاً على نفس ثابت، إذ لم يكن قد خطط للزواج أصلًا، فضلاً عن الارتباط بفتاة بهذه المواصفات. ومع ذلك، تذكر ثابت وقوفه أمام الله يوم الحساب، وأن هذه الدنيا فانية لا تساوي شيئًا أمام رضا الله. فقال في نفسه: "لعل الله يجعل في هذا الزواج خيرًا كثيرًا." ووافق على الزواج دون تردد، محتسبًا كل ذلك لله تعالى.
مفاجأة الزواج: النعمة المخفية
مرت الأيام سريعًا حتى جاء يوم الزفاف. دخل ثابت إلى بيت زوجته وهو متوجس، لا يدري كيف ستكون حياته الجديدة. لكنه فوجئ، بل صُدم عندما رأى فتاة في غاية الجمال والحياء، سليمة في خلقها وخُلقها، قائمة بآداب الإسلام وطاعاته، لم تكن عمياء ولا صماء ولا بكماء ولا مقعدة كما وصفها والدها.
تملّكه العجب، وسارع إلى والد الفتاة يسأله عن سبب ما قاله له سابقًا. أجابه الرجل بابتسامة ملؤها الحكمة: "لقد قلت لك إنها عمياء عن الحرام، لا تنظر إلى ما لا يرضي الله، صماء عن سماع الحرام، بكماء عن قول الباطل، مقعدة عن السعي إلى معصية الله. أردت أن أختبر ورعك وتقواك، وكنتَ على قدر المسؤولية."
وهكذا، رزق الله ثابت بزوجة صالحة وذرية طيبة، وكانت بداية قصة حياة مباركة عنوانها الأمانة والصدق.
العبرة من القصة: قيمة الورع في حياة المسلم
قصة التفاحة وثابت بن النعمان تعلمنا أن الورع الحقيقي ليس مجرد شعور داخلي بل سلوك عملي يظهر في أدق التصرفات. ربما يظن بعض الناس أن أكل تفاحة سقطت في النهر أمرٌ لا يستحق الالتفات، لكن ثابت علم أن الأمانة تقتضي الحرص الشديد حتى على أصغر الأمور. وهذه الروح العالية، عندما تتغلغل في النفس، تقود إلى البركات الدائمة في الحياة، من زواج مبارك، وذرية صالحة، وسعة رزق.
اليوم، في عالم تزداد فيه الفتن والشبهات، نحتاج إلى نماذج مثل ثابت، تذكرنا أن التقوى ليست شعارًا يرفع بل منهج حياة يُعاش بكل تفاصيله.
لماذا نحتاج إلى قصص مثل هذه؟
في زمن تغيرت فيه كثير من القيم، وغابت عن الكثيرين معاني الورع والخوف من الله، تبرز قصص تراثية إسلامية مثل هذه القصة كأنها مصابيح هداية تنير لنا الطريق. قصص الأمانة والورع لا تقتصر فائدتها على الصغار فحسب، بل هي دروس لكل الأعمار؛ تزرع في القلوب بذور الخير، وتغرس في النفوس معاني التقوى والحياء من الله.
إن إعادة سرد مثل هذه القصص، ومناقشتها مع الأطفال والشباب، يساهم في بناء مجتمع قوي، محصّن بالقيم والأخلاق.
خاتمة: كن مثل ثابت وازرع التقوى
في النهاية، تبقى قصة ثابت بن النعمان وقصة التفاحة رمزًا خالدًا لمعنى الورع الحقيقي والأمانة المطلقة. على كل واحد منا أن يسأل نفسه: هل أخاف الله حق الخوف؟ هل أتورع عن الحرام صغيره وكبيره؟ كل تصرف صغير قد يكون سببًا في بركة عظيمة أو نقمة لا تحمد عقباها. فلنتخذ من ثابت قدوة حسنة، ولنعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وأن الورع الصادق مفتاح سعادة الدنيا والآخرة.
إقرأ أيضا: