حين تتكلم الطبيعة في قلب غابة نائية، حيث تتشابك الأغصان كأذرعٍ متعانقة وتغطي الأشجار سماءها بألو خضراء زاهية، وُجدت شجرة عظيمة تشبه المعابد القديمة في مهابتها. لم تكن مجرد كائن حي، بل كانت رمزًا للحكمة والسكينة. في ظلها كانت تتفتح الزهور، وتولد الأمنيات، وتُقال الحكايات.
في أحد الأيام، حملت الرياح عصفورًا صغيرًا إلى تلك البقعة، ليبدأ فصلًا جديدًا من فصول القدر، لم يكن يعرف أنه سيغدو بطله.
قصة الشجرة والعصفور
الفصل الأول: الشجرة العتيقة – ذاكرة الغابة
كانت الشجرة تُعرف باسم "رُوح الأرض"، لأنها كانت أقدم كائن حي في الغابة. لم تكن تتحدث كثيرًا، لكنها كانت تسمع كل شيء: حفيف الأوراق، بكاء الغيم، وخفقات أجنحة الفراشات. بين جذوعها كانت الأرانب تبني مساكنها، وتحت ظلالها كانت الثعالب الصغيرة تلعب دون خوف، لأنها كانت تعرف أن الشجرة تحميها.
وذات ليلة قمرية، نزلت عليها أضواء اليراعات، وكأنها تعترف بقداستها.
الفصل الثاني: العصفور الرحّال – حامل الأسرار
كان العصفور الذي حلّ على الشجرة صغيرًا في حجمه، لكنه كبير في عقله وتجربته. جاء من مدينة الضباب، حيث الأبنية تُخفي الشمس، والضجيج يُغرق صوت العصافير. هرب منها لأنه لم يجد قلبًا يُصغي، ولا روحًا تُشاركه التحليق.
في أول حديث له مع الشجرة، قال: "كل ما كنت أبحث عنه هو مكان يفهمني." فقالت الشجرة: "وأنا كنت أبحث عن روح تُعيد لي معنى الحياة."
وهكذا، بدأت رحلة التعارف، من بين ملايين أوراق الصمت.
الفصل الثالث: صداقة بلون الزهر
مرت أيام وتحوّلت إلى مواسم، ومع كل فصل كان العصفور يكتشف شيئًا جديدًا عن الشجرة: كانت تحفظ أسماء الطيور التي سكنت أغصانها، وتعرف متى يولد الضباب، ومتى تغضب الشمس.
وفي المقابل، كان هو يحكي لها عن أحلامه الصغيرة، عن رغبته في الطيران بحرية، عن الأغاني التي لم يجد من يستمع إليها.
وكانت تُجيبه أحيانًا بأمثال غريبة كأنها من عالم آخر: "لا تصدق الريح دائمًا... فالريح تحمل من يسكن قلبه فراغ." "الغصن الذي يتعلم الانحناء، لا ينكسر."
الفصل الرابع: العاصفة والاختبار
ذات مساء، شعرت الشجرة بتغيّر في الريح، وكأن شيئًا ما على وشك الحدوث. كانت الطيور تهاجر فجأة، والحيوانات تختبئ دون إنذار. قالت الشجرة: "اقتربت العاصفة، وستختبر كل شيء عرفناه."
هبّت العاصفة كوحشٍ بلا وجه، كسرت أغصانًا واقتلعت أشجارًا، لكن العصفور ظل متشبثًا بالشجرة. في لحظة من الرعب، ارتجف قلبه وقال: "هل سننجو؟" ردّت الشجرة: "إن لم تنجُ الأجساد، ستنجو القلوب."
وفي صباح اليوم التالي، كانت الشمس تخرج بتردد، وكأنها تخشى النظر لما حدث. لكن الشجرة والعصفور كانا هناك... مجروحين، لكن واقفين.
الفصل الخامس: الوشاح الذهبي – معجزة الشفاء
في أعقاب العاصفة، بدأ شيء غريب يحدث. أوراق الشجرة الجافة بدأت تُزهر بألوان لم تُعرف من قبل: زهريٌ فاقع، أزرق سماوي، وأصفر كلون الغروب. قالت الحيوانات إن الشجرة وُلدت من جديد.
لكن الحقيقة كانت في العصفور؛ فقد قرر أن ينثر على أغصانها رحيق أندر الأزهار التي جمعها من رحلاته، ليعيد لها روحها. وسمّى هذا الوشاح الطبيعي: "تاج الحكمة".
الشجرة، التي لم تبكِ أبدًا، أطلقت دمعة ندى سقطت على رأس العصفور، ومنذ ذلك الحين، أصبح ريشه يلمع كلما غنى، وكأن بين حنجرته ونبض الغابة سحرًا أبديًا.
الفصل السادس: العهد الأخير – بذور الأمل
كبر العصفور، ولم يعد مجرد مستمع، بل أصبح مرشدًا لباقي الطيور. كان يعلمهم أن الأشجار لا تموت حين تسقط، بل حين تُنسى. وكان يزرع حول الشجرة بذورًا جلبها من أماكن نائية، لتكبر وتروي نفس الحكاية: "كُن وفياً، كُن حكيمًا، كُن شجرة."
وفي أحد الأيام، جاء طائر صغير جديد، سأل العصفور: "ما الذي تفعله هنا؟" فأجابه مبتسمًا: "أنا أحرس الجذر الأول... الصداقة التي علمتني كيف أطير وأنا ثابت."
الخاتمة: حين تتحول القصة إلى تراث
لم تعد تلك الشجرة مجرد مَعلم، بل صارت مقامًا للحكايات، ومزارًا للطيور الصغيرة التي تبحث عن معنى للحياة. وحين تسأل أحد سكان الغابة: "أين توجد الحكمة؟" سيشير إلى تلك الشجرة، ويقول: "في ظلّها بدأت الحكاية، ومع كل ريشة تطير، تستمر."
إقرأ أيضا: