بين الزهد والتجارة من ينتصر؟
في زمانٍ بعيد، كانت القلوب النقيّة تبحث عن الله في كل ركن، وكان الناس يفرّون من الدنيا مخافة الفتنة. وكان الاعتقاد السائد أن من أراد الآخرة فعليه أن يهجر الدنيا، ومن أراد الله فليعتزل الناس، فلا جمع بين قلبٍ معلق بالسماء ويدٍ تتقلب في التجارة والأسواق.
لكنّ الحياة لا تمضي بمثالية الأفكار، بل باختباراتها القاسية. وفي هذه الأجواء، وُلدت قصة رجل استثنائي، اسمه جريج. لم يكن نبيًا ولا ملكًا، بل عبدًا صالحًا، عاشقًا للعبادة، معتزلًا للناس، حتى جاءه ابتلاء لم يخطر له على بال، قلب موازينه، وحرّك داخله صراعًا بين النقاء والتعامل، بين الخلوة والمخالطة، بين الزهد والكسب. هذه قصته كما لم تُروَ من قبل: قصة جريج العابد التاجر.
قصة جريج العابد
الفصل الأول: من هو جريج العابد؟
كان جريج رجلًا صالحًا، أقام لنفسه صومعة فوق جبل منعزل، لا يسمع فيها إلا صوت الرياح، ولا يُرى فيها إلا ركوعه وسجوده. لم يكن له أهل أو ولد، ولم يكن له في الحياة طموحٌ سوى لقاء الله بقلبٍ سليم. كانت أيامه تمضي في عبادة لا تنقطع، لا يعرف الأسواق، ولا يخالط البشر، حتى الطعام كان يُرسل إليه في سلال يضعها أهل القرية عند أسفل الجبل، دون أن يروه.
ذاع صيته بين الناس، فأصبحوا يتبركون بذكره، ويطلبون دعاءه في شدائدهم. وكانوا يقولون: "جريج هو ولي الله في الأرض، طهر قلبه فانقطعت صلته بالدنيا، واتصلت روحه بالسماء."
لكنه كان يجهل شيئًا مهمًا: أن الإيمان لا يُختبر بالعزلة فقط، بل بالاحتكاك، وأن القلوب قد تُفسد بالعزلة كما تُفسد بالاختلاط، إن لم تكن متزنة.
الفصل الثاني: التجارة تطرق باب الصومعة
ذات يوم، طرق بابه رجل لا يعرفه، غريب الهيئة، عيناه فيهما بريق الحكمة، وصوته عميق يحمل نبرة سؤال لا يُرد. قال له: – "يا جريج، أراك اعتزلت الناس، فهل رأيت الله في وحدتك؟ وهل نقلت للناس نوره؟"
ردّ جريج بهدوء: – "عبادتي لله لا تحتاج مخالطة، قلبي له، ونيتي صادقة، فما شأني بالناس؟"
لكن الغريب اقترب وقال: – "وهل تظن أن الله يُعبد بالصلاة فقط؟ أما علمت أن في السوق عبادًا، لا تغرّهم التجارة عن ذكر الله؟ ألم تقرأ: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"؟"
تركه الرجل وقد زرع في قلبه تساؤلًا لم يعرف له جوابًا، فبات جريج ليلته يفكّر: "أأكون قصّرت؟ أيمكن للعبادة أن تكون في السوق؟"
الفصل الثالث: تجربة السوق الأولى
في اليوم التالي، نزل جريج إلى المدينة، لأول مرة منذ سنوات. رأى زحمة الأسواق، سمع أصوات البائعين، رأى لهفة المشترين، ودهش من حركة الحياة. لكنه رأى كذلك ما آل إليه حال الناس: كذبٌ في الأيمان، غشٌ في الميزان، طمعٌ في المال.
تألم قلبه، وأدرك أن العباد بحاجة إلى من يذكّرهم، لا من يهرب منهم. وعزم على أن يخوض التجربة، لا طمعًا في ربح، بل طمعًا في التقرب إلى الله عبر باب جديد: باب التجارة الصادقة.
اشترى كمية صغيرة من التمر، وجلس على بساطه، وبدأ يبيع. لم يرفع السعر، لم يُقسم كذبًا، ولم يرد على من أساء إليه إلا بالحلم. فبدأ الناس يلتفتون إليه، يسألون: من هذا الغريب الذي لا يشبه بقية التجار؟
الفصل الرابع: العابد ينجح في التجارة
مرت الأيام، وتكررت التجربة، فازدادت ثقة الناس به. كان جريج يربح القليل، لكن بركة الله كانت معه. لم يتوقف عن الصلاة، بل جعلها في وسط السوق، ولم يترك قراءة القرآن، بل أصبح الناس يجتمعون حوله يستمعون إليه.
تحوّلت تجارته إلى منارة، لا تُضيء فقط لجيبه، بل لقلوب الآخرين. ساعد الأرامل، كفل الأيتام، وعلّم التجار الشرف في البيع. حتى قيل: "دخل السوق فقيرًا، وأغناه الله بالصدق."
الفصل الخامس: الامتحان الأعظم
وفي لحظةٍ من لحظات النجاح، جاءه نفس الرجل الغريب، وقال: – "يا جريج، نجحت في التجارة، فهل نجوت من الدنيا؟ أم دخلت قلبك خفية؟"
سكت جريج، فقد أحس أن شيئًا من الدنيا تعلق بروحه. نعم، كان صادقًا، لكن هل بقي قلبه كما كان؟ ابتعد عن السوق، اعتزل الناس لأيام، راجع نفسه، فتش عن شوائب في نيته، وبكى طويلًا، حتى شعر بطهارة قلبه تعود.
عاد بعدها إلى السوق، لا بعقل تاجر فقط، بل بقلب عابد أكثر نضجًا. أصبح أكثر زهدًا، وأكثر قربًا من الناس، دون أن ينقص ذلك من عبادته شيئًا.
الفصل السادس: الدرس الذي تعلّمه جريج
قال جريج لتلاميذه يومًا: – "الزهد ليس في ترك المال، بل في أن تملكه دون أن يملكك. والعبادة ليست في الانعزال فقط، بل في الصدق مع الناس، في الرحمة بهم، في نصحهم، في أن تُعطي من وقتك وروحك لتجعل حياة غيرك أقرب لله."
وأضاف: "تعلمت أن التجارة عبادة، إذا صلحت النية، وأن الميزان ليس فقط لوزن السلع، بل لوزن القلوب."
خاتمة: العابد التاجر… صورة الإنسان الكامل
قصة جريج العابد التاجر تلخّص رحلة الإنسان نحو التوازن، بين الروح والجسد، بين العبادة والعمل، بين السماء والأرض. هي دعوة لكل من ظن أن الإيمان يقتصر على جدران المساجد، ولكل من خاف أن يخوض غمار الحياة مخافة الفتنة.
فجريج علّمنا أن القلوب القوية لا تهرب من الدنيا، بل تدخلها وهي ممسكة بيد الله. وأن التاجر الصادق، قد يكون في مقام العابد، بل قد يعلو عليه حين يُخلِص النية ويُحسن العمل.
إقرأ أيضا: