عندما تتحدث القرى عن الطيبة والحكمة
في قلب الصحراء العربية، حيث تمتد الرمال كأنها بحر لا نهاية له، تقع قرية صغيرة تُدعى "السُّكينة"، عُرفت بسكانها الطيبين وهدوئها الذي يشبه هدوء الليل في حضن النجوم. كانت القرية بعيدة عن ضجيج المدن، لكنها غنية بحكايات الكرم والحكمة. وفي هذه القرية، عاش رجل فريد، لقبوه بـ"الشيخ الطيب"، لا لعلمه الغزير وحده، بل لحسن خلقه، ولأن حضوره كان بمثابة بلسم للجراح في زمنٍ شحّ فيه الحنان. لم يكن أهل القرية يتحدثون عنه كغيره من الرجال، بل كانوا يتداولون حكاياته كما يتداولون الأمثال، كأنها جزء من تراثهم وهويتهم.
قصة الشيخ الطيب
البداية: من هو الشيخ الطيب؟
شخصية الشيخ الطيب
اسمه الحقيقي كان عبد السلام بن هارون، رجل ناهز السبعين عامًا، ولد في كنف أسرة فقيرة، لكنه كبر غنيًا بالقيم والمبادئ. عاش طفولته في ظل والده الذي كان فلاحًا بسيطًا، لكنه علّمه أن العطاء لا يحتاج مالًا، بل نية طاهرة. في شبابه، جاب المدن والقرى طلبًا للعلم، لكنه لم يجد ضالته في الكتب فقط، بل في معايشة الناس، في الإصغاء لآلامهم، ومشاركتهم أفراحهم. وحين عاد إلى قريته، لم يحمل الشهادات، بل حمل الحكمة. لم يكن متكبرًا، بل تواضعًا يمشي على قدمين، يوزع السلام والطمأنينة كما توزع السماء غيثها.
العطاء دون مقابل
الإحسان في زمن الجفاء
ما ميّز الشيخ الطيب عن غيره، أنه لم يكن ينتظر جزاءً ولا شكرًا، كان يعطي كأنما يقدّم لنفسه، ويكرم الغريب قبل القريب. كل صباح، كان يخرج إلى بابه، يسلّم على المارة، ويعرض على من يبدون عليه التعب أن يدخل ليستريح. كان طعامه دائمًا على قدر اثنين، لأنه يؤمن أن الزاد إن قُسم بارك الله فيه. ساعد الأرامل والأيتام، علّم الأطفال مجانًا، وشارك في إصلاح بيوت الفقراء بيديه. وعندما سُئل ذات مرة عن سبب كل هذا الكرم، أجاب بابتسامة: "من يمنح قلبه للناس، يعيش في قلوبهم إلى الأبد".
الحكمة التي أنقذت القرية
حكمة الشيوخ
في عامٍ قاسٍ، عمّ الجفاف أنحاء القرية، ومات الزرع وجفّت الآبار، واضطرب الناس حتى كادوا يرحلون. عقد وجهاء القرية اجتماعًا طارئًا، لكن الخلاف دبّ بينهم، كلٌ يلوم الآخر. عندها تذكّروا الشيخ الطيب، فهرعوا إليه، وقد ارتسمت على وجوههم علامات القلق. استمع لهم بصبر، ثم أشار إلى منطقة مهجورة وقال: "هناك تحت الرمل، ستجدون الحياة". سخر بعضهم، لكن آخرين أطاعوه، وبعد أيام من الحفر المضني، تدفقت المياه من باطن الأرض كأنها تجيب على يقينه. كانت تلك اللحظة فارقة، فالحكمة التي سكنت قلبه أنقذت أرواحًا وأعادت الحياة للقرية.
سرّ الصندوق القديم
سر الشيخ الطيب
في ركن متواضع من بيته الطيني، وُضع صندوق خشبي صغير، مغطى بقطعة قماش قديمة. لم يكن يفتحه أمام أحد، بل كان يتفقده بين الحين والآخر، ويكتب فيه شيئًا ثم يغلقه بهدوء. كثيرون تساءلوا عن محتواه، وظن بعضهم أنه يضم كنزًا أو سرًا دفينًا. لكنه كان يقول دائمًا: "ليس كل ما يُخفى يُخفى خوفًا، فبعض الأسرار تُحمى كي لا تُفقد قيمتها". وبعد وفاته، وعندما فتحه حفيده، وجد داخله كنوزًا من نوع آخر: دفاتر مدوّنة فيها أعماله الخيرية، أسماء من ساعدهم، كلمات امتنان بخطوط متعرجة، ووصية كتب فيها: "ازرعوا الخير، دون أن تنتظروا من يحصده".
وفاته التي جمعت القلوب
وفاة الشيخ الطيب
حين فاضت روح الشيخ الطيب، عمّ الحزن كل أرجاء القرية، وكأن الأرض فقدت جزءًا من نورها. لم يكن مجرد رجل مسنّ، بل كان ضميرًا حيًا تمشى على الأرض. خرج المئات لوداعه، وجاءت وفود من القرى المجاورة، وحتى من المدن البعيدة التي زارها في شبابه. بكى الرجال دون خجل، ووقفت النساء يعددن خصاله، بينما الأطفال أمسكوا بأيدي بعضهم، يتذكرون القصص التي كان يرويها لهم. طُلي قبره بالحجارة البيضاء، وزُرع فوقه شجرة زيتون كرمز للسلام والدوام، وكأن الحياة أرادت أن تقول إن الخير لا يُدفن، بل ينمو في القلوب.
الأثر الذي لا يُمحى
أثر الطيبة
بعد وفاته، لم تعد القرية كما كانت. وكأن طيفه بقي يسكن الزوايا، يهمس للناس في صمت: "كونوا كما كنت أرجوكم أن تكونوا". تحسّن تعامل الناس مع بعضهم، صار الكرم أكثر شيوعًا، وتحوّل بيته إلى مركز مجتمعي صغير يقدم المساعدة للمحتاجين. وكتب عنه أحد معلمي القرية مقالًا بعنوان: "الشيخ الذي أضاء ليل القرية"، نُشر في صحيفة إقليمية وانتشر كالنار في الهشيم. حتى الأطفال صاروا يرددون كلماته كأنها نشيد صباحي: "افعل الخير، ولو لم يرك أحد".
دروس من حياة الشيخ الطيب
دروس من حياة الصالحين
لقد علّمنا الشيخ الطيب الكثير، دون أن يرفع صوته أو يفرض وصاياه. كانت أفعاله تتحدث، وكانت ابتسامته دستورًا غير مكتوب. عرّفنا أن القوة الحقيقية تكمن في اللين، وأن المجد لا يُبنى بالهيبة بل بالحبّ. في زمن كثرت فيه الأحقاد، كان هو نبعًا صافياً من الطيبة. قصته تذكير لنا جميعًا بأن الحياة لا تُقاس بما نملك، بل بما نُعطي، وبالأثر الذي نتركه خلفنا. وكل من عرفه، يعلم أنه وإن رحل جسده، فإن روحه باقية بيننا، تُلهمنا لنكون أفضل.
إقرأ أيضا: