في عالم تسكنه المخلوقات الطائرة، حيث تتحدث الرياح وتخزن الجبال أسرار الزمن، هناك قصص لا تُروى عبثًا. قصة النسر والغراب ليست مجرد حكاية طيور تتصارع على المجد، بل هي مرآة نرى فيها وجوهنا عندما نندفع في طريق لا نعرفه، فقط لأننا نحلم بالصعود دون دراية بمخاطره. إنها قصة عن الطموح المغرور والتقليد الأعمى، وعن الفرق بين أن تكون ذكيًا بالظاهر أو حكيمًا بالفعل. نرويها لكم اليوم بأسلوبٍ مشوق، لتكون عبرة لكل من ظنّ أن تقليد العظماء يصنع منه عظيمًا.
قصة النسر والغراب
الفصل الأول: سيد السماء
في ذروة سلسلة جبلية شديدة الارتفاع، حيث لا تصل الرياح بسهولة ولا يجرؤ أحد على الاقتراب، كان يعيش نسر يُدعى "شاهين"، ملكٌ حقيقي بين الطيور. تميّز شاهين بجناحيه الواسعين القادرين على احتضان الريح، وعينيه الثاقبتين اللتين لا يفوتهما أدنى حركة في الأرض. لم يكن النسر مجرد صياد بارع يقتات على الحيوانات الصغيرة، بل كان أيضًا حاميًا لحدود السماء.
لم تكن الطيور الأخرى تراه كثيرًا، لكنه حين يظهر، تخرس الأصوات احترامًا. وقد عُرف عنه أنه لا يتدخل إلا حين تهتز موازين العدل، فيحلّ مشكلات النزاع، ويضع الحدود لمن يتجاوزون أعراف الغابة. كان حضوره كافيًا لبثّ الطمأنينة في القلوب، وهيبةٌ تجبر حتى النسور الأخرى على الانحناء أمامه.
الفصل الثاني: الغراب الطموح
ليس ببعيد عن قمة النسر، في غصن شجرة بلوط كبيرة، كان يعيش الغراب "فَلك". طائر أسود الريش، بذكاء ملحوظ وعينين فضوليتين، لكنه يحمل في داخله شعلة لا تهدأ من الحسد والطموح الجامح. لم يكن فَلك راضيًا عن كونه غرابًا، لطالما راودته فكرة أنه وُلد ليكون أكثر من ذلك. كان يشاهد النسر من بعيد وهو يحلق في الأعالي، وتتملكه رغبة حارقة ليصل إلى تلك القمم.
كان يقلد كل شيء يراه من شاهين: طريقته في الطيران، نظراته الحادة، حتى وقفته الوقورة فوق الصخور. وبينما كانت الطيور الأخرى تعتبره متطفلًا أو ساذجًا، كان هو يظن نفسه "نسرًا قيد التكوين". لم يملك القوة، ولا الشكل، ولا حتى المهارة... لكنه كان يظن أن الإرادة وحدها تكفي.
الفصل الثالث: الغراب يتدرب بطريقته
أيامٌ وليالٍ قضاها فَلك في محاولات مستميتة لتقليد النسر. كان يطير عاليًا قدر استطاعته، حتى يلهث ويهوي دون توازن. كان يجرب الوقوف على أطراف الصخور الحادة رغم أنها ليست آمنة لطائر مثله. بل حتى أنه حاول إتقان طريقة انقضاض النسر، فمارس ذلك على أوراق الأشجار، وعلى عصافير صغيرة مذعورة.
في كل محاولة كان يفشل، لكن فَلك لم يفكر يومًا بأن الفشل سببه أنه ليس نسرًا. بل اعتقد أن السبب في قلة التمرين أو في الظروف المحيطة. ومع كل فشل، يزداد إصرارًا، إلى أن بدأت الطيور من حوله تهمس ضاحكة، وتتهمه بالجنون أو الغرور الفارغ.
الفصل الرابع: التجربة الفاشلة
وجاء اليوم الذي قرر فيه الغراب أن يثبت نفسه أمام الجميع. رأى النسر ينقض على حمل صغير بمهارة، فيلتقطه بمخالبه الحديدية، ويحلق دون أن يهتز في الهواء. مشهد جعل فَلك يصر على المحاولة بنفسه. اقتنص لحظة غياب النسر، وطار تجاه قطيع الغنم، مستهدفًا نعجة صغيرة.
لكنه لم يكن مستعدًا لما حدث. علقت مخالبه في الصوف، وأصبح عالقًا، يرفرف بجناحيه في جنون دون فائدة. بدأ ينعق مستنجدًا، لكن الأمر كان قد خرج عن السيطرة. سمعه الراعي، فأتى راكضًا ووجده متشبثًا بالنعجة. حمله بيده وسخر منه، ثم أطلق سراحه وهو يقول: "حتى الغربان أصبحت تتوهم أنها نسور!"
عاد الغراب مذلولًا، ودموع الخزي تملأ عينيه. لقد ضحك عليه الجميع، حتى أصدقاؤه المقربون.
الفصل الخامس: السخرية والخذلان
بعد تلك الحادثة، أصبح فَلك حديث الغابة. في كل مكان يذهب إليه، يسمع همسات وسخرية: "هل رأيت النسر الكاذب؟" "الغراب الذي كاد يختنق بصوف النعجة!"
حتى زملاؤه من الغربان تبرؤوا منه، خشية أن يطالهم العار. عاش أيامًا من العزلة، لا يخرج من عشه، ولا يأكل إلا القليل. كانت كلماته القديمة عن الطموح والثقة تحاصره الآن كأصوات هادمة.
لكنه أدرك، وسط خزيه، أن الخطأ لم يكن في المحاولة، بل في الجهل، في غروره، وفي تجاهله لحدوده.
الفصل السادس: لقاء النسر العظيم
بعد تردد طويل، قرر فَلك أن يصعد الجبل لمقابلة النسر. لم يعد في قلبه لا تحدٍ ولا طموح أجوف، بل فقط رغبة في الفهم. حين وصل، وقف أمام النسر وقال: "يا شاهين، أنا أتيت لا لأثبت شيئًا، بل لأتعلم. لقد ظننت أن العظمة يمكن أن تُستعار، وأن المجد يمكن أن يُقلَّد. كنت مخطئًا."
نظر إليه النسر نظرة هادئة وقال: "أن تأتي نادمًا خير من أن تبقى في غرورك. يا فَلك، الطموح بلا معرفة يؤدي إلى الهلاك. ليس العيب في أنك حاولت، بل في أنك لم تفهم من أنت أولًا."
الفصل السابع: رحلة في الذات
عاد فَلك من عند النسر وقد تغيرت روحه. بدأ ينظر لنفسه نظرة مختلفة. لم يعد يرى نفسه صغيرًا، بل مميزًا بطريقته الخاصة. بدأ يراقب البيئة من حوله، يدرس أماكن الطعام، ويتعلم كيف يحذر أصدقاءه من الأخطار، ويبتكر طرقًا جديدة للتواصل والتنقل.
أصبح الغراب فَلك ذا قيمة، ليس لأنه قلد النسر، بل لأنه فهم نفسه، واكتشف إمكانياته الفعلية. لم يكن بحاجة للتحليق في الأعالي، بل لصناعة بصمته على الأرض.
الفصل الثامن: الحكمة الجديدة
في موسم الهجرة، احتاجت الطيور إلى قائد يعرف خفايا الطرق البرية، ويحذرهم من مخاطر الإنسان والصيادين. لم يكن النسر مناسبًا لذلك، فاختاروا فَلك. كانت تلك لحظة انتصار حقيقي، لا ضجيج فيه ولا تصنع. قادهم في رحلة ناجحة، واستحق الاحترام الذي طالما حلم به.
قال النسر بعدها: "لقد كنت غرابًا مغرورًا، فأصبحت غرابًا حكيمًا. وهذه أعظم رحلة يمكن لطائر أن ينجزها."
الفصل التاسع: الفرق بين الذكاء والحكمة
طلبت الطيور من النسر أن يوضح الفرق بين الذكاء والحكمة فقال: "الذكاء قد يكون فطريًا أو سريع البديهة، لكنه دون تجربة وتواضع قد يضلّ. أما الحكمة، فهي معرفة الذات، والقدرة على التقدير، والتعلم من كل سقطة."
ثم أضاف: "وفَلك، كان ذكيًا لكنه ضل، حتى عاد وتواضع. والآن، أصبح حكيمًا يُحتذى به."
الخاتمة: العبرة من قصة النسر والغراب
قصة النسر والغراب ليست مجرد حكاية، بل درسٌ يتكرر في حياتنا جميعًا. كم من الناس حاولوا أن يكونوا غيرهم، ففشلوا؟ وكم من آخرين اكتشفوا أنفسهم، فنجحوا على طريقتهم؟ العظمة لا تُقلَّد، بل تُبنى على معرفة الذات، الصبر، والتجربة.
ثق بنفسك، وابنِ مجدك بما تملك، لا بما تراه في غيرك. لأن الطيران الحقيقي يبدأ حين تتقبل نفسك، لا حين تحاول أن تصبح طائرًا آخر.
إقرأ أيضا: