حين تنطق الحكمة بلسان شيخ
في عالمٍ صاخبٍ تسيطر عليه الماديات وتُطمس فيه القيم الأصيلة، تبقى القصص التراثية بمثابة منارات تهدي الحائرين وتوقظ الضمائر النائمة. ومن بين هذه القصص، تبرز قصة الشيخ الحكيم كتحفة من تحف الأدب القصصي العربي، تحمل بين طياتها عِبرًا لا تبهت، ودروسًا تزداد بريقًا مع مرور الزمن. في هذه القصة التي تنبض بالحكمة والإنسانية، سنخوض رحلة إلى قرية بسيطة، تغير مصيرها بسبب رجل واحد، لا يحمل سلاحًا ولا مالًا، بل يحمل قلبًا عامرًا بالعقل وروحًا مشبعة بالإيمان والفطنة.
قصة الشيخ الحكيم
القرية الهادئة وبداية الحكاية
في ركن بعيد من البلاد، حيث تمتد الحقول الخضراء وتتعانق فيها أشجار الزيتون والنخيل، كانت تقع قرية صغيرة تُدعى "الندى". كان أهل القرية يعملون في الزراعة والتجارة البسيطة، يعيشون حياة متواضعة، لكن علاقاتهم الاجتماعية بدأت تتأثر مع مرور الوقت، نتيجة صراعات يومية صغيرة بدأت تتضخم، وتحولت مع الوقت إلى خصومات وأحقاد مزمنة.
كانت القرية تفتقر إلى من يستطيع الإصلاح، إلى صوت عاقل يُعيد التوازن بين الناس. تعددت النزاعات على أمورٍ بسيطة، كالسقي وتوزيع الماء، وبدأ الشك يسكن القلوب. لم يعد هناك من يُرجع الحق لأهله أو يُحسن التوفيق بين المختلفين. كل ذلك خلق حالة من القلق الجماعي، وباتت القرية التي كانت يومًا رمزًا للسلام، ساحة مفتوحة للخصومات والاتهامات.
ظهور الشيخ الحكيم
وفي خضم هذه الفوضى الخفيّة، وصل رجل غريب إلى القرية. كان يبدو كبيرًا في السن، يعلو وجهه وقار السنين، ويمشي بخطى ثابتة لا تحمل تردّدًا. استقر تحت شجرة التوت العتيقة الواقعة في قلب القرية، وجلس هناك بصمت. لم يتحدث كثيرًا في البداية، بل اكتفى بمراقبة الناس والاستماع إلى حديثهم دون تدخل.
لكن لم يمض وقت طويل حتى لاحظ القرويون أن كل من جلس معه، خرج من عنده وكأن غمامةً قد انقشعت عن عقله، وكأن صدره امتلأ بنور الفهم. بدأ الناس يطلقون عليه لقب "الشيخ الحكيم"، وذاع صيته شيئًا فشيئًا، حتى صار مجلسه ملتقى لأهل القرية، يأتونه من كل حدب وصوب لحل مشاكلهم، وطلب النصيحة في شؤونهم الخاصة والعامة.
كان الشيخ لا يُلقي المواعظ الجافة، بل يسرد الحكايات، ويطرح الأسئلة، ويُحفز العقل على التفكير. وهذا ما جعله قريبًا إلى القلوب، ومسموع الكلمة عند الجميع.
العبرة الأولى: لا تحكم قبل أن تسمع
جاء فلاح ذات يوم إلى مجلس الشيخ الحكيم، ممتلئًا بالغضب، يشكو من جاره الذي اتهمه بسرقة دلو ماء من البئر المشترك. كان متأكدًا من ظنّه، وقد قرر أن يُشهر بالأمر أمام أهل القرية.
ابتسم الشيخ، وطلب حضور الجار. ثم سأل الفلاح: "هل رأيته وهو يأخذ الدلو؟" فأجاب: "لا، لكن من غيره؟ لم يدخل البئر سواه بعدي!"
نظر الشيخ إلى الحضور وقال: "كم من الظنون جرّت فتنة، وكم من يقينٍ تبيّن أنه وهم." ثم طلب أن يُفتش البئر، فاكتشفوا أن الدلو انقطع حبله وسقط في أعماقه، ولم يسرقه أحد.
خرج الجميع من المجلس بتغيير جذري في فهمهم للعدالة، وتعلّموا درسًا لا يُنسى: "لا تحكم على الناس بالظنون، فالحقيقة لا تُولد إلا بسماع الطرفين والتروي قبل إصدار الأحكام."
العبرة الثانية: من يسامح، يسمو
وفي أحد المجالس، حضر رجل تبدو عليه علامات القهر والغضب، وقال للشيخ: "تعرضت لإهانة أمام الناس، ولن أرتاح حتى أرد الصاع صاعين."
أطرق الشيخ برهة، ثم قال: "أخبرني، ماذا ستجني إن رددت له الإهانة؟ راحة؟ كرامة؟ أم أنك ستفتح بابًا جديدًا للحقد لا يُغلق؟"
نظر إلى الحضور وسألهم: "من منكم لم يُخطئ في لحظة غضب؟"
صمت الجميع.
تابع الشيخ قائلاً: "المسامح لا يُهين نفسه، بل يرفعها. والعفو شجاعة لا يُجيدها إلا من زكّى قلبه ونقّى نفسه."
في اليوم التالي، عاد الرجل إلى خصمه، وصافحه أمام الناس، قائلاً: "إنما أردت أن أكون من الذين يسامحون لوجه الله، لا لضعفٍ ولا خنوع."
ارتفعت مكانته بين الناس، وصار مثالاً يُحتذى به في ضبط النفس والرفعة.
العبرة الثالثة: الخير لا يضيع مهما غاب الشكر
بعد أشهر، جاء شاب في مقتبل العمر إلى الشيخ وهو يشعر بالحزن، وقال له: "يا شيخ، أفعل الخير ولا أجد مقابلًا. ساعدت جيراني، وأنقذت طفلًا من الغرق، وساعدت في بناء منزل أرملة... لكن لا أحد يشكرني!"
ابتسم الشيخ وقال: "يا بني، هل تفعل الخير لتُشكر، أم لأن الخير هو رسالتك؟"
ثم أضاف: "من زرع بذرة خير في أرض الحياة، سيراها تُثمر ولو بعد حين. الخير لا يضيع، قد لا تراه في الدنيا، لكن الله لا ينسى، والكون لا ينسى."
كان لتلك الكلمات أثر عميق في قلب الشاب، فخرج من عند الشيخ عازمًا على فعل الخير بصمتٍ، راضيًا أن يكون نفعه خالصًا لله.
موقف الوداع، حين غادر الحكيم
مرت سنوات، وأصبح مجلس الشيخ الحكيم مرجعًا ثابتًا في حياة القرية. تغيرت النفوس، وسكنت المحبة بين الجيران. لكن في أحد الأيام، جاء الناس كعادتهم إلى مجلس الشيخ، فوجدوا المكان خاليًا، وتحت الشجرة القديمة، كانت هناك رسالة كُتبت بخط يده:
"لقد حان وقت الرحيل. أنتم الآن الحكمة التي كنت أحلم أن أراها. اغرسوها في قلوب أبنائكم، وفي أعمالكم، وستزهر القرية أبدًا."
غادر الشيخ كما أتى: بلا اسم، ولا طلبٍ، ولا ضجيج. لكن ذكراه بقيت، لا تغيب عن مجلس، ولا تغيب عن قلب.
قصة الشيخ الحكيم، دروس للعمر كله
قصة الشيخ الحكيم ليست مجرد حكاية تُروى، بل مرآة لكل من يبحث عن السكينة وسط صخب الحياة. تعلّمنا من خلالها أن الحكمة ليست حكرًا على الكبار، بل هي ثمرة الصدق، والنية، والتفكر. أن العفو قوة، والظن عدو، والخير عمل لا يحتاج شكرًا ليكون عظيمًا.
في زمن تتداخل فيه الأصوات، تظل قصص الحكماء منارات نحتاجها، ننهل منها المعنى، ونرشد بها الأبناء. فكن أنت الحكيم في محيطك، وابدأ بتغيير عالمك من داخلك.
قصة الشيخ الحكيم، قصص عربية قصيرة، قصص تحتوي على عبرة، قصة حكمة مؤثرة، قصة تعليمية للأطفال، قصة عن العفو، قصص تنمية بشرية، قصة عن الظن السيئ، حكايات عربية تراثية.
إقرأ أيضا: