الصدقة ليست مجرد مال، إنها مفتاح للرحمة والفرج
في زمنٍ أصبحت فيه الضغوط المعيشية تحاصر الكثيرين، وقلوب الناس أثقلتها الأزمات والمشاكل، تبقى الصدقة واحدة من أنبل الوسائل التي تُحيي الأرواح وتُنعش الأمل. ليست الصدقة مجرد مبلغ يُمنح، بل هي لغة خفية تُترجم مشاعر الرحمة والتكافل بين البشر. خلف كل صدقة قصة، وخلف كل قصة أثر لا يُنسى. في هذه القصة الواقعية التي تحمل بين طياتها معاني سامية، سنتعرف على كيف يمكن لفعل بسيط أن يُحدث تغييرًا جذريًا في حياة إنسان. إنها قصة امرأة فقيرة، وصدقة مجهولة المصدر، وبركة نزلت من السماء في وقتٍ لم يكن يُتوقع فيه أي مخرج.
قصة أثر الصدقة
بداية القصة في حيٍ فقير
في أحد الأحياء القديمة التي بالكاد تصلها الخدمات، عاشت أم ياسر، امرأة في أواخر الثلاثينات من عمرها، ترملت منذ عام، وتكفلت بتربية أطفالها الثلاثة وحدها. كانت الحياة قاسية على هذه الأسرة الصغيرة، خصوصًا بعد فقدان العائل الوحيد. تراكمت الديون، وارتفعت أسعار المعيشة، ولم تكن تمتلك سوى قوت يومها الذي كانت تحصل عليه من عملها في تنظيف البيوت.
رغم صعوبة وضعها، كانت أم ياسر تتمسك بكرامتها، وترفض أن تسأل أحدًا، لكنها في كل ليلة كانت تبكي بحرقة على سجادة الصلاة، متوسلة إلى الله أن لا يضيع أبناءها، وأن يمد لها يد العون من حيث لا تحتسب. كانت ترى أطفالها ينامون جياعًا أحيانًا، لكنها لم تفقد الأمل يومًا بأن الله رحيم لا ينسى عباده.
الصدقة المجهولة التي غيرت كل شيء
ذات صباح بارد، وبينما كانت أم ياسر تستعد للخروج إلى عملها، لاحظت كيسًا موضوعًا أمام باب بيتها الصغير. فتحت الباب بتردد، وإذا بها تجد كيسًا يحتوي على مواد غذائية: أرز، زيت، خبز، وحليب لأطفالها. لكن المفاجأة الكبرى كانت الظرف الموضوع في داخله، وبه مبلغ من المال ورسالة صغيرة مكتوب عليها: "لا تيأسي، فرج الله قريب. هذه هدية من أخٍ يحبك في الله. لا تنسينا من دعائك."
وقفت مدهوشة للحظات، لم تصدق عينيها. من هذا الشخص؟ وكيف عرف بحاجتها؟ ولماذا اختار أن لا يكشف نفسه؟ لكنها سرعان ما انهمرت دموعها، واحتضنت الكيس وكأنه كنز ثمين. شعرت أن الله سمع صوتها، وأجاب دعاءها الذي لطالما خرج من أعماق قلبها.
في تلك الليلة، نام أطفالها شبعى، ونمت هي ودموع الامتنان تملأ عينيها. كانت أول مرة منذ شهور تشعر فيها بالأمان.
سلسلة من البركات تبدأ
مرت الأيام، وكأن أبواب الخير بدأت تُفتح واحدة تلو الأخرى. بعد أسبوعين من استلام الصدقة، عُرض على أم ياسر عمل دائم في أحد الفنادق كعاملة نظافة، مع ضمان اجتماعي وراتب شهري مستقر. لم تصدق أن هذا الحظ يمكن أن يكون حليفها بعد كل ما مرت به من شقاء.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل جاء أحد جيرانها، وهو مدرس متقاعد، وعرض عليها أن يُدرس أطفالها دون مقابل، تعاطفًا مع وضعها. بدأت تشعر أن العالم لم يعد مكانًا مظلمًا، وأن الخير ما زال موجودًا، ينتظر فقط أن يُبادر به أحد.
زاد إيمانها بأن الصدقة التي وصلتها لم تكن مجرد طعام ومال، بل كانت نقطة تحوّل حقيقية في حياتها، كتبت بداية جديدة بعدما ظنت أن كل الأبواب قد أُغلقت.
من متلقية إلى معطية
مرت عدة أشهر، واستقر حال أم ياسر. لم تعد تبيت وهي تفكر من أين ستطعم أبناءها، بل أصبحت تدخر القليل من راتبها شهريًا لمساعدة من حولها. كانت تذهب إلى المسجد القريب، وتسأل الإمام إن كان يعرف من يحتاج إلى المساعدة. كانت تقول في نفسها: "كما جاءني الخير في وقت ضيقي، علي أن أرده لمن هو في حاجة اليوم."
وفي أحد الأيام، وجدت امرأة تجلس على الرصيف وبجانبها طفل صغير يبكي. اقتربت منها وقدّمت لها طعامًا وبعض النقود، ثم قالت لها العبارة ذاتها التي كُتبت في الرسالة التي وصلتها يومًا: "لا تيأسي، فرج الله قريب." ثم ابتعدت وهي تدعو الله أن تكون هذه البداية لتغيير حياة امرأة أخرى، تمامًا كما حدث معها.
المتصدق الحقيقي يكشف عن نفسه بعد سنوات
بعد مرور ثلاث سنوات على تلك الحادثة، كانت أم ياسر تحضر درسًا دينيًا في مسجد الحي، وعند نهاية الدرس اقتربت من الإمام وسألته بلطف: "شيخنا، أود أن أعرف إن كنت تعرف من وضع تلك الصدقة عند بابي منذ سنوات. ما زالت الدعوة في قلبي له لا تفارقني."
ابتسم الإمام وقال بهدوء: "إن كنتِ لا تمانعين، فسأقول لكِ الحقيقة الآن. كنت أنا من وضع الكيس عند بابك. كنت أعلم بحالك من بعض الجيران، وفضلت أن أُخفي أمري لتكون صدقتي خالصة لوجه الله."
اغرورقت عيناها بالدموع، وشكرته بشدة، لكنه قاطعها قائلاً: "أنتِ اليوم تفعلين خيرًا كثيرًا للناس. هذا هو الأثر الحقيقي للصدقة، أن لا تتوقف عندك، بل أن تنتقل وتنتشر كالنور."
الصدقة لا تضيع أبدًا… بل تعود أضعافًا
في هذه القصة الملهمة، نرى كيف كانت الصدقة الخفية بمثابة حياة جديدة لأسرة كانت على وشك الانهيار. وما بدأ بعطاء بسيط، تحوّل إلى سلسلة متواصلة من الخير والعطاء. تعلمنا من أم ياسر أن العطاء لا يتطلب ثراءً، بل يتطلب قلبًا حيًا، وإيمانًا بأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.
إذا كانت لديك القدرة على التصدق ولو بالقليل، فلا تتردد. قد تكون صدقتك الصغيرة هي بداية فرج عظيم في حياة شخص لا تعرفه، لكنها محفوظة عند الله، وستعود إليك أضعافًا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة، بل تزده."
إقرأ أيضا: