عندما يتحدى الطغاة رسل الله، منذ أن خلق الله البشر، كان هناك صراع دائم بين
الحق والباطل، بين دعاة الخير والطغاة الذين يعيثون في الأرض فسادًا. وفي كل مرحلة
من مراحل التاريخ، بعث الله أنبياءه ورسله ليقيموا الحجة على الناس ويهدوهم إلى
طريق النور والرشاد. لكن كثيرًا من هؤلاء الرسل واجهوا مقاومة شرسة من قبل ملوك
ظالمين ورجال متكبرين لا يعترفون إلا بقوة البطش والسلطان. ومن هؤلاء الطغاة
النمرود بن كنعان، الذي وقف بكل جبروته أمام دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام. قصة
لقاء هذين الرجلين تحكي صراعًا خالدًا بين النور والظلام، بين صوت السماء وغطرسة
الأرض. إنها قصة تضيء الطريق لكل مؤمن يواجه طغيان العصر.
قصة النمرود
بداية القصة: من هو النمرود؟
النمرود بن كنعان، كان من نسل نوح عليه السلام،
إلا أن صلة النسب لم تمنعه من الغرق في مستنقعات الكفر والضلال. ورث ملكًا واسعًا
في أرض بابل، وأقام نظامًا قمعيًا استند إلى البطش والظلم. لا تُذكر أخبار النمرود
إلا ويُذكر معها جنونه بالسلطة وشدة فساده. لم يكتف بالسيطرة السياسية بل تجرأ إلى
حد ادعاء الألوهية، مدعيًا أنه مصدر الحياة والموت للناس. كان يأمر قومه أن يسجدوا
له ويقدموا له القرابين، ويعاقب كل من يخالف أوامره بأشد أنواع العقاب. عاش
النمرود في قصر عظيم تحيط به الجيوش والحراس، لكنه كان خاوي الروح، ظن أنه ملك
الدنيا وما فيها، ناسياً أو متناسياً أن هناك إلهًا فوق كل شيء. وسط هذه الأجواء
الظالمة، كانت السماء تهيئ نبيًا عظيمًا ليكون شوكة في حلق الطغيان.
إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى التوحيد
منذ نعومة أظافره، كان إبراهيم عليه السلام
يختلف عمن حوله. في حين كان الناس يعبدون الأصنام والأجرام السماوية، كان هو يتأمل
الكون ويتساءل: من خلق هذا الجمال؟ من الذي يدبر أمر هذه الكائنات؟ لم يجد في
الأصنام البكماء ما يشبع روحه الباحثة عن الحقيقة. لذلك هداه الله إلى التوحيد،
وأصبح حامل راية الإيمان في زمن امتلأ بالكفر. بدأ إبراهيم دعوته بأهله وقومه
بالحكمة والموعظة الحسنة، محاولًا أن يوقظ عقولهم الغافلة. لم يخف من سخريتهم أو
تهديداتهم، بل واصل بثبات عجيب. حتى بلغ خبره القصر الملكي، فاستدعي إلى مجلس
النمرود، وهناك، أمام أعين الملأ، وقف إبراهيم عليه السلام وقفة الواثق بالله،
مستعدًا لمواجهة الطاغية الأعظم في زمانه.
اللقاء العظيم: حوار سيدنا إبراهيم مع النمرود
في مشهد خالد، وقف إبراهيم عليه السلام بثبات
أمام النمرود في مجلس مهيب، حيث تحلق حولهما رجال الحاشية والوزراء. لم يكن
إبراهيم عليه السلام يحمل سلاحًا ماديًا، بل حمل معه أقوى سلاح: سلاح الإيمان
والعقل والحجة. بدأ الحوار حين أعلن إبراهيم عليه السلام أن ربه هو الذي يحيي
ويميت. فحاول النمرود مغالطته، مدعيًا أن بوسعه أن يحيي ويميت بقتله أو عفوه عن الناس.
لكن إبراهيم لم يترك له المجال للتمويه، فطرح عليه سؤالًا لا مفر منه: إن الله
يأتي بالشمس من المشرق، فهل تستطيع أنت أن تأتي بها من المغرب؟
ساد الصمت القاعة، وتجمدت الألسنة، وعجز
النمرود عن الرد. لم يكن يملك قدرة حقيقية أمام هذا التحدي الإلهي. لقد سقطت هيبته
في لحظة، وأصبح موضع استهزاء الملأ الذين طالما أرهبهم. كانت حجة إبراهيم عليه
السلام ضربة قاضية للطغيان، برهانًا على أن سلطان الله فوق كل سلطان.
النمرود يتمادى في الكفر والطغيان
رغم وضوح الحق وسقوط حجته، لم يلن قلب النمرود،
ولم تخمد جذوة كبريائه. بدلاً من أن يرجع إلى الحق ويعلن توبته، أمعن في الكفر
والعناد. فكم من طاغية رأى الآيات جهرةً ولكن أصر على الباطل بسبب غروره؟! ظن
النمرود أن ملكه سيحميه من عذاب الله، وأن جبروته سيقف سدًا منيعًا أمام غضب
السماء. لكنه لم يدرك أن السنن الإلهية لا تحابي أحدًا، وأن الظلم مهما طال أمده،
نهايته الزوال والدمار. استمر النمرود في اضطهاد المؤمنين وتعذيب من آمن بدعوة
إبراهيم عليه السلام، حتى ملأت دعوات المظلومين السماء طلبًا للانتقام.
العقاب الإلهي: نهاية الطاغية النمرود
حينما حان وقت القصاص، لم يرسل الله إلى
النمرود جيشًا عظيمًا ولا سيفًا بتارًا، بل أرسل إليه جنديًا صغيرًا لا يكاد يُرى
بالعين المجردة: بعوضة. هذه البعوضة دخلت إلى أنف النمرود واستقرت في دماغه،
وأحدثت له ألمًا لا يطاق. حاول الأطباء علاجه بكل الوسائل، لكن دون جدوى. كان لا
يجد راحة إلا عندما يُضرب رأسه ضربًا شديدًا، فصار خدمه يضربونه بالسياط والعصي
طول الوقت. يا له من إذلال! ذل في الدنيا قبل أن يذوق العذاب الأكبر في الآخرة. ظل
النمرود على هذه الحال من العذاب حتى مات ميتة شنيعة، ليكون عبرة لكل من سلك طريق
الطغيان.
العبرة من قصة النمرود وإبراهيم عليه السلام
إن قصة النمرود وإبراهيم عليه السلام ليست مجرد
حكاية تُروى، بل هي درس خالد لكل زمان ومكان. تعلمنا أن الحق مهما بدا ضعيفًا أمام
قوى الظلم، فإنه أقوى وأبقى. تعلمنا أن الاستبداد والغطرسة نهايتهما الخزي والهلاك
مهما طال أمدهما. لقد جسد إبراهيم عليه السلام في حواره مع النمرود أسمى معاني
الثبات واليقين، وأثبت أن كلمة الله تعلو ولا يعلى عليها. كما أن العقاب الإلهي
جاء ليثبت أن الله قادر على إذلال أعتى الجبابرة بأضعف مخلوقاته، في مشهد تتجلى
فيه عدالة السماء وعظمتها.
خاتمة: الإيمان نور لا يطفئه طغيان
ختامًا، تبرز لنا هذه القصة العظيمة أن نور
الإيمان لا يمكن للطغاة أن يطفئوه مهما عظمت سطوتهم. لقد وقف إبراهيم عليه السلام
شامخًا بحجته، وانهار النمرود في ذل وعذاب. تبقى هذه القصة نبراسًا يهدي قلوب
المؤمنين، ويبعث فيهم الأمل أن النصر مع الصبر، وأن الحق لا يموت مهما اشتد ظلام
الباطل. فليكن في قصة إبراهيم والنمرود دافع لنا لمواصلة السير على درب الإيمان،
وعدم الخوف من بطش الجبابرة، لأن النصر في النهاية لمن كان مع الله، والله دائمًا
مع عباده الصابرين المؤمنين.
إقرأ أيضا: