البخل، صفة تفتك بالروح قبل الجسد، لطالما كانت
صفة البخل واحدة من أكثر الصفات التي ذمّها البشر عبر العصور، لما تتركه من أثر
سلبي على نفس الإنسان وعلاقته مع الآخرين. فالبخيل لا يحرم غيره فقط، بل يحرم نفسه
أيضًا من متع الحياة، خوفًا من إنفاق ما يملك. وقد امتلأت القصص الشعبية بحكايات
عن بخلاء انتهت حياتهم نهايات مأساوية أو مثيرة للسخرية. وفي قصتنا اليوم،
"قصة الرجل البخيل والعدس"، نغوص في حكاية طريفة، لكنها تحمل في طياتها
دروسًا عظيمة حول خطورة البخل عندما يتجاوز حدوده المعقولة.
قصة البخيل والعدس
الفقرة الأولى: بداية القصة - رجل من عالم
البخل والعجائب
في إحدى القرى الصغيرة الواقعة بين الجبال
الخضراء، كان هناك رجل يُعرفه الجميع بالبخل الشديد. لم يكن مجرد رجل مقتصد أو
حريص، بل بلغ ببخله حدًا عجيبًا جعل الناس يتندرون عليه ليل نهار. كان يمتلك أرضًا
خصبة وثروة لا بأس بها من الذهب والفضة، لكنه كان يعيش كأفقر أهل القرية. كان
يرتدي ملابس بالية قديمة مرقعة بعناية وكأنه يفتخر بإظهار مدى تقشفه. أما طعامه،
فكان أكثر بؤسًا من ملبسه؛ إذ كان يكتفي بطهي قدر من العدس كل يوم، من دون إضافة
أي نوع من التوابل أو الدهون. الماء والعدس فقط، وكأنها وجبة ملوك بالنسبة له!
لم يكن الرجل ينفق على نفسه إلا بأقل القليل،
وكان يعتبر أي إنفاق، مهما كان بسيطًا، جريمة بحق ثروته. حتى أن الناس رووا عنه
قصصًا غريبة، مثل أنه كان يطفئ الشموع في الليالي المقمرة كي لا يستهلك الشمع بلا
داعٍ! كان مثالًا حيًا على مقولة "جمع المال لغيره"، إذ حُرم من لذائذ
الحياة رغم قدرته عليها.
الفقرة الثانية: دعوة غير متوقعة - مأدبة تغير
الموازين
ذات صباح مشمس، بينما كان الرجل منهمكًا في
ترتيب أكياس العدس في مخزنه الخاص، جاءه صبي من جيرانه يحمل دعوة لحضور مأدبة ضخمة
بمناسبة زفاف أحد أبناء القرية. تردد الرجل في قبول الدعوة، فقد كان يعلم يقينًا
أن المشاركة في مثل هذه المناسبات قد تجلب عليه لاحقًا التزامات مالية أو دعوات
مماثلة لا يستطيع التملص منها بسهولة.
جلس يفكر طويلًا وهو يقلب الدعوة في يده، وحدث
نفسه قائلاً:
لماذا أرفض فرصة كهذه؟ سأذهب وأتناول ما لذ وطاب دون أن أدفع
درهمًا واحدًا. وبعد ذلك أعتذر كما اعتدت، فالكل يعلم أنني لا أدعو أحدًا إلى بيتي.
بهذا المنطق البخيل الذي لا يتغير، قرر أن يحضر
الوليمة. استخرج من خزانته ثيابه الأقل اهتراءً، ومسحها جيدًا، ثم تجهز للخروج
كأنه ذاهب إلى معركة مصيرية.
الفقرة الثالثة: الوليمة الكبرى - ساعة
الانتقام من الجوع المزمن
حين وصل إلى ساحة الاحتفال، انبهر الرجل بمنظر
الموائد العامرة بما لذ وطاب من أطعمة. لحوم مشوية تفوح منها الروائح الزكية،
أطباق أرز ملونة بالزعفران، سلطات لذيذة وحلويات بكم هائل يغري العين قبل المعدة.
لم يتمالك الرجل نفسه، وأحس أن الفرصة لا تعوض.
بدأ يلتهم الطعام بشراهة غير معهودة. انتقل من
طبق إلى طبق وكأن كل لقمة ستكون الأخيرة له على الأرض. لم يترك صنفًا دون أن يغرف
منه ملء طبقه، بل كان أحيانًا يحشو الطعام في جيوب معطفه القديم ليأكله لاحقًا. لفت
انتباه الجميع، لكنه لم يبالِ. كان يعتبر هذه الوليمة غنيمته الكبرى التي يجب أن
يستغلها حتى آخر لقمة.
أكل وأكل حتى ثقلت قدماه عن الحركة، وانتفخت
معدته كالقربة المنتفخة، لكنه مع ذلك كان يواصل بلع اللقم ببطء شديد. كلما حاول
التوقف، وسوس له بخله الداخلي قائلاً:
ازدد لقمة أخرى، فالفرصة لا تتكرر.
الفقرة الرابعة: العودة إلى البيت - مواجهة
العدس والندم المؤلم
بعد أن انتهت المأدبة وأخذ الحضور يتهامسون عما
فعله الرجل البخيل، حمل نفسه بتثاقل عائدًا إلى بيته. كان يسير متمايلًا تحت وطأة
التخمة، يشعر كأن بطنه سيتفجر في أي لحظة. ولما دخل إلى بيته، لمح قدر العدس الذي
أعده في الصباح. كان العدس لا يزال على الطاولة، ينتظر أن يُؤكل.
وقف الرجل أمام القدر طويلًا، وصراع داخلي يدور
بداخله بين معدته الممتلئة وحرصه الشديد على ألا يُهدر طعام دفع فيه المال. أطرق
رأسه حزينًا وقال لنفسه:
هل أتخلى عن هذا العدس الذي كلفني ماءً وحطبًا وعدسًا ثمينًا؟
مستحيل!
جلس رغم ألمه، وبدأ يغرف من العدس ويأكل ببطء
شديد. كل لقمة كانت كأنها صخرة تنزل في بطنه، لكنه لم يستطع أن يتركها. كان ينهج
ويتألم، ومع ذلك، يواصل الأكل. قهر نفسه قهرًا، فقط لأن فكرة إهدار الطعام كانت
عنده أشد إيلامًا من ألم المعدة المنتفخة.
الفقرة الخامسة: نهاية مأساوية مضحكة - السقوط
على قدر العدس
استمر الرجل يأكل حتى غلبه الألم، وسقط مغشيًا
عليه بجانب قدر العدس. سمع الجيران أنينًا خافتًا من بيته، فسارعوا إليه فوجدوه
على الأرض بلا حراك. حملوه إلى سريره، واستدعوا حكيم القرية الذي بعد أن فحصه
طويلاً، قال مبتسمًا:
إنه ليس مريضًا، إنه مثقل بالطعام! لم يترك فراغًا لمعدة أو حتى
أمعاء!
ضحك الجميع، وأصبحوا يروون قصته في مجالسهم.
ولما أفاق الرجل من غيبوبته، كان أول ما تفوه به: أرجوكم، أين قدر العدس؟ هل
أكملته أم بقي شيء؟
ضحك الجميع حتى كادوا يبكون. وصارت حكايته
مثلاً يُضرب به، وقيل من بعدها في القرية: أبخل من رجل أكل حتى كاد
أن يهلك، لكنه أبى أن يترك قدر عدسه يضيع!
الخاتمة: درسٌ في الحياة من قصة الرجل البخيل
والعدس
تحمل قصة الرجل البخيل والعدس درسًا عظيمًا،
وهو أن الإفراط في البخل قد يُفقد الإنسان لذة العيش، ويجعله عبدًا للمال والخوف
من الإنفاق. لقد أهلك هذا الرجل نفسه من أجل حفنة عدس، ليصبح رمزًا للبخل الذي
يقتل صاحبه ببطء.
الحكمة الأزلية التي يجب أن نضعها نصب أعيننا
تقول:
أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، ولا تجعل المال سيدك بل
اجعله خادمك.
فلنكن حكماء، لا بخلاء ولا مسرفين، فخير الأمور
أوسطها.
إقرأ أيضا: