في عالمٍ سريع الإيقاع تسوده المصالح المادية
والأنانية، تلمع القصص التي تتحدث عن النبل والإحسان كنجوم في سماء معتمة. إن مثل
هذه القصص، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، تحوي في طياتها دروسًا خالدة عن طبيعة الخير
وأثره في النفوس. نقدم لكم اليوم قصة مستوحاة من أعماق الإنسانية، قصة الرجل الطيب
والبقرة والرجل الفقير، التي تُعيد التذكير بأن الخير الذي يقدمه الإنسان يعود
إليه يومًا ما، مهما طال الزمن أو اشتدت المحن. دعونا نستعرض معًا تفاصيل هذه الحكاية
الملهمة.
قصة الرجل الطيب والبقرة والرجل الفقير
بداية الحكاية: لقاء غير متوقع
في قرية نائية محاطة بالحقول الخضراء والأنهار
الصغيرة، كان يعيش رجل اسمه عبد الله. عُرف بين أهل قريته بصفاء قلبه وصدق لسانه
ويده السخية الممتدة للجميع. كان عبد الله يعتمد على بقرة واحدة سمينة في رزقه،
يحلبها ويبيع لبنها، ومن عائدها يطعم أسرته ويوفر لهم أبسط مقومات الحياة. لم يكن
غنيًا، لكنه كان غني الروح، راضيًا بما قسمه الله له.
وفي يوم قائظ من أيام الصيف، وأثناء عودته من
السوق، لمح رجلاً غريبًا يجلس تحت شجرة قرب الطريق، يبدو عليه الهزال الشديد،
وثيابه ممزقة، وعيناه غائرتان من الجوع والعطش. دفعه قلبه الرحيم للاقتراب وسؤاله: هل
تحتاج إلى شيء يا أخي؟
رفع الرجل رأسه ببطء، وكأن الكلام بات عبئًا
عليه، وقال بصوت خافت: كل ما أحتاجه هو شربة ماء، ولقمة تسد رمقي، لقد أضعت كل
شيء، ولم أعد أملك سوى هذا الجسد المنهك.
شعر عبد الله بانقباض في قلبه، وعلم أن هذا
الرجل بحاجة ماسة للعون الحقيقي، لا مجرد كلمة شفقة.
اليد الممدودة: كرم لا مثيل له
لم يكن عبد الله من الذين يترددون حين يستنجد
بهم أحد. فبإيمانه العميق بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حمل الرجل الفقير
إلى منزله دون تفكير، حيث أكرمه بطعام دسم وسقاه حتى ارتوى، وأعطاه سريرًا نظيفًا
لينام عليه براحة لم يعرفها منذ أيام طويلة.
في تلك الليلة، جلس عبد الله إلى جوار زوجته
يتحدث عن حال الرجل الغريب، وملامح التفكير ترتسم على وجهه. قال لها: ليس من الإنصاف أن أطعمه فقط ثم أتركه يعود إلى الضياع، يجب أن أعينه
على أن يبدأ حياة جديدة.
فتحت زوجته عينيها بدهشة وقالت: لكن ماذا نملك غير هذه البقرة؟
رد عبد الله بإيمان قوي: البقرة رزق من الله، والله
قادر أن يرزقنا خيرًا منها.
وفي الصباح الباكر، أخذ بيد الرجل الفقير إلى
الحظيرة، وأشار إلى بقرة ضخمة كانت تتغذى بهدوء وقال له: خذ هذه البقرة، فهي لك.
ستكون مفتاح رزقك الجديد.
لم يستطع الرجل الفقير أن ينطق من شدة
المفاجأة، وانهمرت دموع الامتنان من عينيه وهو يقبل يد عبد الله ويقول: لن أنسى هذا المعروف ما حييت.
بداية رحلة الرجل الفقير
حمل الرجل البقرة ومضى مبتعدًا عن القرية،
وقلبه مفعم بالأمل والشكر. قطع مسافات طويلة حتى وصل إلى مدينة صاخبة، حيث بدأ
يبيع حليب البقرة كل صباح للناس في الأحياء الفقيرة. مع مرور الأيام، لم يكن يكفيه
ما تنتجه بقرة واحدة، فادخر جزءًا من ربحه واشترى بقرة أخرى، ثم ثالثة، وهكذا حتى
كوّن قطيعًا صغيرًا.
بذكائه وإخلاصه في عمله، ذاع صيته بين أهل
المدينة. أصبح لا يمر يوم دون أن يبيع عشرات الأرطال من الحليب الطازج، مما مكنه
من شراء متجر صغير لتحضير الألبان ومشتقاتها. ومع مرور السنوات، توسعت تجارته
وأصبح من كبار التجار، يشار إليه بالبنان ويحترمه الجميع.
ومع كل نجاح جديد، كان يحتفظ بصورة الرجل الطيب
عبد الله في ذهنه، ويتعهد في قلبه أنه لن ينسى الفضل الذي بدأ منه كل هذا الرخاء.
مصير الرجل الطيب: اختبار صعب
أما عبد الله، فقد استمرت حياته على وتيرة
الفقر بعد أن فقد مصدر رزقه الوحيد. لجأ للعمل في الحقول كبائع متجول أو عامل بسيط
مقابل أجرة زهيدة، لكنه لم يتخلّ يومًا عن كرامته أو ابتسامته الصافية. لم يكن
يشكو أو يتذمر، بل كان يردد دائمًا:
ما عند الله خيرٌ وأبقى.
اشتدت الأحوال عليه حتى بات أحيانًا يقف عاجزًا
أمام دموع أطفاله الجياع، ومع ذلك لم يندم لحظة واحدة على عطائه، وكان يقف كل ليلة
بين يدي الله يناجيه ويقول:
يا رب، أنت أعلم بنيتي، فاجعل لي مخرجًا.
وظل عبد الله يعيش بهذا الإيمان، يزرع الخير
حيثما استطاع، ويواسي نفسه بأن الله لا يغفل عن عباده المخلصين.
اللقاء المفاجئ: حين يعود الجميل
وفي صباح ربيعي مشرق، وبينما كان عبد الله
عائدًا من عمله الشاق، توقفت أمامه عربة فاخرة يجرها حصانان مطهمان. ترجل منها رجل
أنيق الملبس، وعيناه تبرقان بالسعادة.
اقترب الرجل، ثم فجأة انحنى وقبّل يد عبد الله
وهو يقول:
أما عرفتني؟ أنا ذاك الرجل الفقير الذي أعنته قبل أعوام طويلة،
عدت كي أوفي ديني لك.
لم يصدق عبد الله عينيه، واحتضن الرجل بفرح،
وكأن الله بعث إليه الفرج من حيث لا يحتسب.
أخرج الرجل مفتاح قصر فخم وسجلات ممتلكات
وأوراقًا مالية، ومدها إلى عبد الله قائلاً: كل هذا حقك، فأنت من
أنقذتني يوم كنت لا أملك شيئًا، والآن جاء دوري لأرد لك الجميل أضعافًا مضاعفة.
الحكمة من القصة: زرع الخير لا يضيع
هكذا تثبت الحياة لنا دائمًا أن بذور الخير لا
تموت مهما طال عليها الزمن. قد تتأخر ثمارها، لكنها تنضج يومًا في وقت لا نتوقعه،
وبأحلى مما كنا نحلم. عبد الله زرع معروفًا دون أن ينتظر مقابلاً، فأثمر له خيرًا
لا حدود له.
علمتنا هذه القصة أن علينا أن نحسن دون انتظار
الشكر، وأن نساعد دون أن نرصد الأرباح الفورية. فالله، العادل الرحيم، يدخر الخير
لعباده الصالحين، ويرده إليهم حين يكونون في أمس الحاجة إليه.
خاتمة: قوة الخير في حياتنا
في زمن كثرت فيه المصالح، يصبح للقصص التي
تتحدث عن الكرم والوفاء معنى مضاعف. عبد الله كان مثالًا للإنسان الذي يؤمن بأن
العطاء الحقيقي لا ينقص المال، بل يباركه وينميه.
فلتكن حياتنا مليئة بمواقف الكرم، ولنتذكر
دومًا:
افعل الخير مهما استصغرته، فالله لا يضيع أجر المحسنين.
إقرأ أيضا: