عبرة في قلب الطوف
قصص الأنبياء مليئة بالعبر التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتحمل في طياتها دروسًا خالدة للبشرية جمعاء. ومن بين هذه القصص المؤثرة، تبرز حكاية امرأة نبي الله نوح عليه السلام، التي لم تكن مجرد زوجة نبي، بل كانت رمزًا لمفارقة كبرى: أن القرب الجسدي من النبوة لا يضمن النجاة، إن لم يكن القلب مؤمنًا. في هذه القصة نغوص في تفاصيل امرأة عاشت في بيت النبوة، لكنها اختارت أن تكون في صف الكافرين، فكان مصيرها الهلاك مع من كفر، رغم قربها من النبي الذي حمل رسالة التوحيد.
قصة امرأة نوح عليه السلام
زمن الفساد والطغيان
في زمن بعيد، امتلأت الأرض بالظلم والكفر والفساد. انتشر عبادة الأصنام بين الناس، وقلّ من آمن بالله الواحد. في هذا العالم المظلم، بعث الله نوحًا عليه السلام نبيًا إلى قومه، يدعوهم لعبادة الله وحده، ويحذرهم من عاقبة الكفر والطغيان. لكن القوم استكبروا، وسخروا منه، وأعرضوا عن دعوته، حتى بقي معه قليل من المؤمنين.
وكان نوح عليه السلام يواصل دعوته ليلًا ونهارًا، سرًا وعلانية، محاولًا إنقاذ قومه من عذاب الله، ولكنهم ازدادوا عنادًا وتمادوا في رفضهم.
بيت النبوة ليس منارة للجميع
في خضم هذه الأجواء، لم يكن التحدي الوحيد الذي واجهه نوح هو قومه فقط، بل كانت خيانته الكبرى تأتي من بيته. فقد كانت زوجته، التي يُشار إليها في القرآن الكريم بـ "امرأة نوح"، من الكافرين. لم تكن تؤمن برسالته، ولم تكن تعينه على دعوته، بل كانت تنقل أخباره إلى أعدائه، وتشكك في دعوته في السر، وتستهزئ به في الخفاء.
كان بيت نوح، رغم كونه بيت نبي، يعاني من الشقاق الداخلي، والفرقة العقائدية، حيث لم تكن الزوجة تؤمن لا به ولا برسالته، بل كانت تُظهر الولاء للكافرين الذين يسخرون منه.
الخيانة الصامتة
الزوجة لم تكن خائنة بالمعنى التقليدي الذي يتبادر إلى الذهن، بل كانت خيانتها أعظم وأشد: خيانة العقيدة. لم تعترف بنبوة زوجها، وكانت تتجسس عليه لصالح القوم الفاسدين. كانت تنقل أخبار من آمن به، وتحرض عليه في الخفاء. خيانة صامتة، لكنها فاعلة، هزت أساس العلاقة التي يفترض أن تكون مبنية على الإيمان والثقة والدعم.
وقد قال الله تعالى في سورة التحريم: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ٱمْرَأَتَ نُوحٍۢ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍۢ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـٰلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا" هذه الخيانة لم تكن خيانة زنا، بل خيانة في الدين والموقف والإيمان.
صبر النبي واحتساب الموقف
رغم ألم الخيانة، وصعوبة الموقف، إلا أن نوحًا عليه السلام صبر واحتسب. لم يكن الأمر سهلًا عليه، أن يرى أقرب الناس إليه وهو يحاربه من الداخل، لكن صبره كان نابعًا من يقينه بالله، وإيمانه أن الهداية بيد الله وحده. لم يستخدم سلطته النبوية لإجبارها على الإيمان، بل استمر في دعوته، واحتساب أجر الصبر على أذى القريب قبل البعيد.
لحظة الطوفان: الفصل بين المؤمن والكافر
بعد سنوات طويلة من الدعوة والرفض، أوحى الله إلى نبيه نوح ببناء السفينة، وأن العذاب قادم لا محالة. بدأ نوح ببناء السفينة وسط سخرية القوم، وحتى زوجته لم تكن تؤمن بعذاب سيأتي من السماء. وعندما جاء أمر الله، وانفجرت الأرض بالماء، وفتحت السماء أبوابها، حمل نوحٌ من آمن من أهله ومن قومه في السفينة.
لكن زوجته لم تكن من الناجين. كانت من الكافرين الذين طمرهم الطوفان. لم تشفع لها الزوجية، ولم ينفعها القرب من النبي، لأن القلوب هي التي يُنظر إليها، لا الأنساب ولا العلاقات.
الدرس الخالد: النجاة بالإيمان لا بالنسب
من قصة امرأة نوح عليه السلام، نتعلم درسًا عظيمًا: أن القرب المكاني من الأنبياء لا يغني شيئًا إذا لم يكن هناك قرب إيماني. لم تنفعها رابطة الزوجية، ولم يشفع لها أنها كانت زوجة نبي. فالهداية قرار فردي، ومسؤولية شخصية.
قال المفسرون: لقد كانت هذه المرأة تدل قومها على من آمن بنوح، وتشجعهم على إيذاء أتباعه. وكانت مثالًا على أن النفاق والخيانة قد يكونان في أقرب الناس إليك، وأن الله لا ينظر إلى علاقاتك، بل إلى قلبك وعملك.
عبرة لكل الأزمنة
امرأة نوح تمثل عبرة أبدية: أنك قد تكون في بيت من بيوت الطهر، وتجاور أهل الإيمان، ومع ذلك تختار الكفر. وقد تكون في بيئة فاسدة، وتتمسك بإيمانك وتنجو. فالعبرة بالاختيار، لا بالظروف.
والنساء في القرآن، كما الرجال، نماذج تُضرب بها الأمثال، سواء في الإيمان كآسية ومريم، أو في الكفر كزوجة نوح وزوجة لوط. وبهذا، يظل القرآن حيًّا في دروسه، يخاطب العقل والوجدان في كل عصر وزمان.
خاتمة: الطوفان لا يرحم القلوب الغارقة
وهكذا انتهت قصة امرأة نوح عليه السلام، كرمز خالد أن الطوفان الحقيقي لا يبدأ بالماء، بل يبدأ عندما يغرق القلب في الشك والخيانة، ويطفو الكفر على سطح النية. لم تنفعها سفينة النجاة، لأنها لم تصعد على مركب الإيمان. فكانت عبرةً لكل من ظن أن القرب من أهل الحق يكفي، دون الإيمان بهم.
إقرأ أيضا: