في قلب المدن العريقة، حيث يختلط الماضي بالحاضر، تقف تماثيل كثيرة تمثل رموزًا منسية أو أمجادًا خالدة، لكن قلّما يكون لتلك التماثيل قصة تُروى بدموع وعبر. تمثال "الأمير السعيد" كان أحد تلك التماثيل التي بدت لسنوات طويلة كرمز للجمال والكمال، لكن خلف بريق الذهب وابتسامته الهادئة، كانت تختبئ مأساة إنسانية عظيمة، تتحدث عن الفقر، التضحية، والرحمة، وتتجسد فيها أعظم معاني العطاء دون مقابل. هذه القصة ليست فقط للأطفال، بل هي رسالة لكل إنسان يبحث عن معنى السعادة الحقيقي.
قصة الأمير السعيد
الفصل الأول: تمثال فوق المدينة
كان التمثال يقف شامخًا فوق عمود رخامي طويل في وسط المدينة، تحيط به نوافير الماء وحدائق الأزهار. تم نحته بدقة، وزُيِّن بصفائح ذهبية تغطي جسده من رأسه حتى أخمص قدميه. في عينيه كان هناك حجران من الياقوت الأزرق اللامع، يشعان كأنهما نجمتان من السماء. وعلى سيفه المثبّت على خاصرته، وُضعت جوهرة حمراء براقة تعكس نور الشمس كالشعلة.
كان الناس يمرون تحت التمثال يوميًا، ويعجبون بجماله الباهر، ويعتقدون أنه رمز للسعادة الأبدية. الأطفال كانوا يشيرون إليه قائلين: "انظروا إلى الأمير السعيد! كم هو جميل! لا بد أنه كان سعيدًا طوال حياته!" ولكن الحقيقة لم تكن كذلك. فـ"الأمير السعيد" كان يومًا ما أميرًا حقيقيًا، عاش في قصر لا يُضاهى في الرفاهية، تحيط به الورود والعازفون، ولم يُرغم يومًا على مواجهة آلام العالم الخارجي. لقد تربى على التصديق بأن كل ما حوله في العالم جميل وسعيد.
الفصل الثاني: حين تحرك التمثال
في إحدى الليالي الباردة، وبينما كانت الرياح تعصف بأوراق الشجر، كان هناك عصفور صغير وحيد يبحث عن مأوى يقضي فيه ليلته. كان قد تخلّف عن أسراب الطيور التي هاجرت نحو الجنوب، إذ وقع في حب زهرة جميلة، لكنه حين ذبلت الزهرة وماتت، أدرك أنه تأخر عن اللحاق برفاقه. حلق في سماء المدينة يبحث عن مأوى، فرأى التمثال الذهبي فوق العمود، وقرر أن يستريح بين قدميه الكبيرتين.
ما إن بدأ العصفور في لف جناحيه حول نفسه لينام حتى شعر بقطرات باردة تسقط عليه. نظر نحو السماء، فلم يجد غيومًا. تكررت القطرات، فنظر إلى وجه التمثال المضيء، وتفاجأ: الأمير كان يبكي! كانت دموعه تنساب على وجنتيه الذهبيتين، فتلمع تحت ضوء القمر.
اقترب العصفور وسأله برقة: "أيها التمثال الجميل، لماذا تبكي وأنت محاط بكل هذا المجد والجمال؟"
أجاب الأمير بصوت خافت مليء بالحزن: "عندما كنت حيًا، لم أرَ إلا السعادة داخل قصري. لم أكن أعلم أن هناك من يتألم، من ينام جائعًا، من يعاني البرد أو المرض. لكن بعد أن أصبحت تمثالًا، رأيت كل شيء. رأيت المدينة بأكملها من علُ، رأيت الفقر يسكن البيوت، والدموع تسكن العيون. والآن، لا أستطيع فعل شيء سوى البكاء."
الفصل الثالث: أول مهمة
تأثر العصفور الصغير كثيرًا بكلمات الأمير، وشعر بحزن غريب يتسلل إلى قلبه. لم يكن يتوقع أن التمثال الذي يبدو سعيدًا من الخارج يحمل كل هذا الحزن داخله. قال له بحماس: "أيمكنني مساعدتك؟ قل لي ماذا أفعل!"
قال الأمير: "في أحد أطراف المدينة، توجد امرأة فقيرة. ابنها مريض وهي لا تملك ما تشتري به الدواء أو الطعام. خذ الجوهرة الحمراء من سيفي، وامنحها لها."
حلق العصفور في الظلام، وطار نحو الحي الفقير. كان البرد شديدًا، لكن قلبه كان دافئًا بما فيه من نبل. عندما وصل، وجد المرأة تجلس بجانب سرير طفلها المريض، والدموع تنهمر من عينيها. دخل من النافذة ووضع الجوهرة على طاولتها واختفى. في الصباح، رأت الأم الجوهرة، وباعتها، وابتاعت دواءً وطعامًا، فبدأ ابنها يتعافى.
الفصل الرابع: التضحية المستمرة
عاد العصفور إلى التمثال، وأخبره بما حصل. ابتسم الأمير ابتسامة دافئة، وقال: "هناك المزيد من الألم. هل تستطيع البقاء يومًا آخر؟"
أجابه العصفور بلا تردد: "نعم، سأبقى."
في الليلة التالية، أخبره الأمير عن شاعر شاب يرتجف من البرد، ولا يملك حطبًا أو طعامًا. فطلب منه أخذ واحدة من عينيه الياقوتيتين. قاوم العصفور الفكرة، لكنه فعلها.
وفي الليلة التي تليها، أعطاه الأمير عينه الأخرى لتُهدى إلى فتاة صغيرة تبيع أعواد الثقاب، تتعرض للضرب من والدها إن عادت بلا نقود.
فقد الأمير بصره، لكنه ازداد نورًا داخليًا. أما العصفور، فقد بدأت قواه تخور، لكنه رفض الرحيل.
الفصل الخامس: نهاية روحَين
في ليالٍ تلت، ظل العصفور يقتلع رقائق الذهب من جسد التمثال واحدة تلو الأخرى، ويطير بها إلى المحتاجين: طفل يتيم، أرملة حزينة، شاب يحلم بالتعليم... حتى أصبح التمثال رماديًا، بلا بريق.
ثم جاءت ليلة قارسة، والثلج يتساقط من السماء. تراجع العصفور إلى كتف التمثال، والتصق به ليحتمي من البرد، ثم قال بصوت خافت: "يا صديقي، لقد أديت رسالتك. وأنا أيضًا..."
وفي الصباح، وجده الناس ميتًا، متجمدًا، ووجدوا التمثال باهتًا، فقال العمدة: "هذا التمثال القبيح لا يليق بالمدينة. أزيلوه!"
حاول العمال إذابة التمثال، لكن قلبه الرصاصي لم يذب. فطرحوه جانبًا، مع جثة الطائر.
الفصل السادس: الخلود الحقيقي
من السماء، نزل ملاك بأمر إلهي. رأى القلب المحطم والعصفور الميت، فحملهما بلطف، وقال: "هاتان هما أغلى جواهر المدينة." وصعد بهما نحو السماء.
في الجنة، بُني لهما قصرٌ نوراني، لا يُنسى فيه الخير، ولا يضيع فيه الإخلاص. ومن يومها، أصبح اسمهما محفورًا في قلوب من يعرفون معنى التضحية.
خاتمة القصة: ميراث لا يصدأ
مرت السنوات، واندثرت معالم التمثال من المدينة، لكن اسمه لم يُمحَ من ذاكرة الناس. صارت قصة الأمير السعيد تُحكى للصغار والكبار، كدرس خالد في الإنسانية. علمهم أن العطاء لا يحتاج ثراء، بل قلبًا ينبض بالحب، وأن السعادة ليست في ما نملك، بل في ما نعطي.
إقرأ أيضا: