عندما يتغلغل البخل في الأرواح
في قديم الزمان، وعلى أطراف أرضٍ بعيدةٍ تحيط بها الجبال من كل جهة، عاشت قرية صغيرة تُعرف بين القرى باسم "المنحدر الجاف". لم يكن هذا الاسم فقط بسبب الأرض القاحلة التي تحيط بها، بل لأن الجفاف كان أيضًا في قلوب أهلها. لقد عرف الناس أن هذه القرية لم تعرف الكرم يومًا، حتى إن اسمها ارتبط بالبخل في القصص المتناقلة بين المسافرين والتجار. لم يكن الغريب يمر بها إلا مضطرًا، وإذا مر، خرج منها جائعًا عطشانًا، محمّلًا بنظرات الريبة وسخرية الأطفال.
لم تكن هذه القرية تفتقر إلى الموارد الطبيعية فحسب، بل كانت تفتقر إلى شيء أعظم: الرحمة. كانت الأرواح فيها مشدودة إلى المال كما يُشدّ الحبل على عنق الطائر. تربّى الناس فيها على أن إعطاء الآخرين ضعفٌ، وأن مشاركة الطعام حماقة، وأن الكنز المدفون في التراب خيرٌ من اليد الممدودة بالعون. وهكذا مضت حياتهم في عزلة جشعة، حتى جاءهم يومٌ لم يتوقعوه.
قصة الحكيم وأصحاب القرية البخلاء
قرية لا تعرف الكرم
في قرية "المنحدر الجاف"، كان لكل بيت سورٌ عالٍ وبابٌ حديدي موصد بإحكام. لا تُفتح النوافذ إلا قليلاً، ولا تُسمع ضحكات في الأزقة. كانت النساء يخفين طعامهن عن الجيران، والرجال يخفون أموالهم عن بعضهم بعضًا، حتى أن الأخ قد يبخل على أخيه برغيف خبز.
الأطفال بدورهم لم يكونوا أقل بخلًا، فقد تعلموا من أهلهم أن كل شيء يجب أن يُملك وحده، لا يُشارك فيه أحد. ألعابهم مُخبأة، حلوى العيد تُؤكل في الخفاء، وحتى كلماتهم موزونة، لا يقولون "شكرًا" إلا نادرًا، ولا "تفضل" أبدًا. كانت القرية تعيش في دائرة من الجشع الذي كاد يخنق الهواء نفسه، ومع كل يوم يمر، كانت القلوب تزداد جفافًا وصلابة.
وصول الحكيم الغريب
وفي صباح مشمس من أيام الصيف، دخل على القرية رجل غريب الشكل والهندام. كان شيخًا طاعنًا في السن، بثياب رثة وعصًا خشبية يتوكأ عليها، لكن وجهه كان يشع نورًا، وعيناه مليئتان بالهدوء. هذا الرجل كان يُدعى "الحكيم جابر"، وقد طاف بلادًا كثيرة بحثًا عن أرواحٍ يمكنها أن تتغيّر.
وقف جابر في ساحة القرية، يحيي الناس ويبتسم، لكنهم لم يردوا التحية. تجاهلوه كما يفعلون دائمًا، وتفرقوا عنه كأنه وباء. لكنه لم يغضب، ولم يرحل، بل استقر عند أطراف الساحة، وبدأ في تنظيف المكان، وجمع الحجارة المتناثرة، والحديث مع الأطفال الذين اقتربوا منه بدافع الفضول.
وبصبر لا مثيل له، بدأ يُلقي كلمات صغيرة في آذانهم، عن الكرم، وعن بركة العطاء، وعن كيف أن الخير يعود مضاعفًا لمن يقدّمه. راقب الأهالي من بعيد، لكنهم لم يفعلوا شيئًا، بل قال بعضهم إن الرجل مجنون، وإنه سيغادر قريبًا كما فعل غيره.
الخطة الذكية
بعد أيامٍ من المراقبة والتأمل، فهم الحكيم أن النصيحة المباشرة لن تُجدي نفعًا مع أهل هذه القرية. كانوا كمن يضع أصابعهم في آذانهم عند سماع الحق. وهنا قرر أن يلجأ إلى الحكمة الفعلية، لا القول.
وقف مرة أخرى وسط الساحة، ومعه قدر كبيرة قديمة، وأعلن بصوت مرتفع: "سأطهو اليوم حساءً عجيبًا، حساء الحجر السحري! من يشاركني بنقطة ماء أو قطعة خضار سيحظى ببركة عظيمة، ومن لم يشارك، فليتفرج على المعجزة."
ضحك البعض سخرية، وقال أحدهم: "هل يطبخ الحجر؟"، لكن الأطفال التفوا حوله بإعجاب، وبعض النساء تطلّعن من النوافذ بشيء من الفضول، فالمشهد غريبٌ وغير مألوف.
بداية التحوّل
بدأ الحكيم بغلي الحجر في الماء، وهو يهمهم بأدعية غامضة، ويتحدث عن "روح المشاركة" التي تُنضج الطعام الحقيقي. جاء طفل صغير يحمل جزرة، وقال بخجل: "هل أضعها؟"، فأجابه الحكيم مبتسمًا: "ستعطي الحساء طعمه الحقيقي، بارك الله فيك."
ثم تبعته امرأة أضافت بصلة، وبعدها رجل ألقى حفنة عدس. وفي كل مرة، كان الحكيم يشكرهم ويُعلي من شأن مشاركتهم، حتى بدأت القدر تمتلئ بالخيرات.
مع اقتراب الغروب، امتلأت الساحة بالروائح الزكية، وبدأ الناس يقتربون شيئًا فشيئًا. جلسوا حول القدر، يتذوقون ويضحكون، ويشعرون بشيء لم يعرفوه منذ زمن: دفء الجماعة.
التغيير العميق
في الأيام التالية، صار كل يوم يبدأ بتجمّع في الساحة. صار الأطفال يطلبون من آبائهم أن يُحضروا شيئًا للقدر. تحولت الساحة إلى ملتقى للجميع، حيث يطهون ويضحكون ويتبادلون القصص. بدأت الأرض تُزرع من جديد، وتعاون الناس على سقيها ورعايتها.
حتى كبار البخلاء تغيّروا، فقد رأوا أن القلوب عندما تنفتح، تُثمر أكثر من الحقول. وبدأت القرية تتطور، حتى أطلق عليها المجاورون لقب "وادي البركة"، بدلًا من اسمها القديم الكئيب.
رحيل الحكيم
ذات صباح، وقف الحكيم أمام الساحة، وقد حمل عصاه وهمّ بالرحيل. اجتمع الناس حوله، يسألونه أن يبقى، لكنه قال بابتسامة هادئة: "لقد أنجزت ما أتيت من أجله. أنتم الآن تعرفون الطريق، وسأسير لأضيء قرية أخرى."
أعطوه هدايا بسيطة من صنع أيديهم، وودعوه بدموع لم يعرفوها من قبل. كانت لحظة فارقة، أثبتت أن القلب الذي كان حجرًا، يمكن أن يتحول إلى ينبوع.
دروس لا تُنسى
مرت السنوات، وتغيّرت القرية بالكامل. صار الأطفال يقصّون قصة الحكيم على زوار القرية، ويشيرون إلى حجر صغير محفوظ في وسط الساحة، نقش عليه:
"من هذا الحجر غُليت قلوبنا من جديد."
لقد أدرك أهل "وادي البركة" أن العطاء لا يُنقص، بل يزيد، وأن الجود لا يُفقر، بل يغني، وأن الحكمة لا تدخل إلا قلبًا يلين. وهكذا، تحولت قرية البخلاء إلى منارة كرم، بفضل رجل واحد، وحجر واحد، وقلوب تجرأت أن تتغيّر.
إقرأ أيضا: