قصة الصياد الذكي
صباح في الغابة الهادئة
في إحدى القرى الوادعة الواقعة على أطراف غابة كثيفة، عُرف رجل يُدعى حسان بين أهل قريته بأنه أفضل صياد عرفوه. لم يكن حسان كبيرًا في السن، لكنه امتلك من الحكمة ما جعله يبدو أكبر من عمره. كان الصباح بالنسبة له وقتًا مقدسًا، يبدأه بالوضوء والدعاء، ثم يرتدي معطفه المصنوع من جلد الغزال، ويحمل قوسه وسهامه بعناية، وينطلق نحو الغابة بخطى واثقة.
الغابة كانت عالماً مستقلاً بذاته، فيها ممرات سرية، وأصوات خافتة لا يفهمها إلا من عاش معها طويلاً. الطيور تصدح في تناغم، والريح تعزف بين الأشجار نغمًا حزينًا تارة وفرحًا تارة أخرى. كان حسان يقرأ هذه الأصوات كما يقرأ الكتب. يعرف متى تمر الذئاب، وأين تختبئ الغزلان، ويُميّز بين أثر الأرنبة الصغيرة وبين آثار خنزير بري.
رغم معرفته الواسعة، لم يكن يستغلها لإبادة الحياة البرية، بل كان يصطاد بحذر، ويأخذ ما يكفيه فقط. علمه والده منذ الصغر أن الصياد الحقيقي لا يُقاس بعدد فرائسه، بل بعدد المرات التي قاوم فيها الطمع. ولذلك، أحبه الناس، وكان يُعد قدوة للأطفال والشباب في القرية.
الفخ الغامض
في أحد الأيام، وبينما كان حسان يتوغل في أعماق الغابة بحثًا عن طريدة يسد بها رمق يومه، لمح آثار أقدام غريبة في الطين الرطب. لم تكن تشبه أقدام الغزلان أو الثعالب أو حتى الخنازير البرية. كانت آثارًا ضخمة، تغوص بعمق في الأرض، تتجه في خطٍ متعرج كأن صاحبها كان يسير وهو مصاب.
أثار الأمر فضول حسان، فقرر تتبع الأثر. سار ببطء، متخفيًا خلف الأشجار، متجنبًا كسر الأغصان أو إثارة الطيور. بعد مسافة ليست بالقصيرة، وصل إلى منطقة لم يزرها منذ سنوات. كانت كثيفة بالأشجار، مظلمة رغم أن الشمس كانت عالية في السماء، ورائحتها مزيج من الطين والرطوبة والعشب البري.
هناك، رأى فخًا ضخمًا منصوبًا بدقة متناهية. لم يكن يشبه أفخاخ الصيادين العاديين، بل كان متقن الصنع، مصنوعًا من الحبال المعدنية القوية، ومغطى بطبقة من الطين والأوراق لإخفائه. كان يبدو كأن من نصبه يطارد شيئًا محددًا، شيئًا يعرفه جيدًا، وربما كان ينتظره منذ وقت طويل.
أدرك حسان أن هذا الفخ ليس من صنع أبناء القرية، بل ربما يعود لصياد غريب أو حتى لمخلوق آخر.
الحيوان الأسطوري
في اليوم التالي، لم يستطع حسان كبح فضوله، فعاد إلى نفس المكان، لكن هذه المرة سمع صوت أنين خافت. اقترب بحذر، ليرى مشهدًا غير مألوف: مخلوق ضخم عالق في الفخ، يغطي جسده فراء ناعم بلون الذهب، وله قرنان يلمعان تحت ضوء الشمس المتسلل من بين الأغصان. كانت عيناه واسعتين، بلون أخضر زمردي، تحملان نظرة حزينة وكأنها تطلب النجدة.
وقف حسان مذهولاً. لم يكن هذا دبًا أو أيلًا أو حتى حيوانًا يعرفه من كتب الطبيعة. كان كائنًا أسطوريًا، كأنما خرج من قصص الجدات القديمة. تذكر حينها حكاية "الروح الحارسة للغابة"، المخلوق الذي لا يظهر إلا مرة كل جيل، والذي إن أنقذته، منحك نعمة أبدية، وإن آذيته، جلب عليك لعنة لا تزول.
ورغم الخوف والدهشة، غلبت إنسانيته عليه، واقترب من الفخ ببطء. استخدم خنجره لقطع الحبال، محاولًا ألا يؤذي المخلوق. وما إن تحرر، حتى نظر إليه نظرة امتنان، ثم اختفى وسط الأشجار بسرعة مدهشة، تاركًا حسان يتساءل: "هل كنت أحلم؟ أم أن الأساطير حقيقية بالفعل؟"
الجائزة غير المتوقعة
في تلك الليلة، لم يغمض لحسان جفن. كان يفكر في ذلك الكائن الغامض، في عينيه العميقتين، وفي السؤال الذي لا يفارقه: "هل كنت أنقذ مخلوقًا أم أُختبر؟"
ومع بزوغ الفجر، وبينما كان يستعد للخروج، سمع صوتًا خافتًا على عتبة كوخه. فتح الباب بحذر، فوجد صندوقًا خشبيًا صغيرًا، مغطى بورقة من جلد ناعم كُتب عليها بخط دقيق: "لأنك اخترت الرحمة." فتح الصندوق، ليجد داخله حجارة كريمة لم يرَ مثلها من قبل: ياقوتة زرقاء، زمردة خضراء، وحجر بنفسجي يشع نورًا خفيفًا.
في قاع الصندوق، وُجدت قلادة ذهبية، محفور عليها رمز غريب يشبه شجرة تحيط بها دائرة من الطيور. أحس حسان بدفء في قلبه، وكأن شيئًا بداخله تغير إلى الأبد.
لم يخبر أحدًا عن الصندوق، لكنه شعر أن الغابة الآن تراقبه برفق، وتحرسه كما حرسها.
الطمع البشري
لم تمر أيام كثيرة حتى بدأ بعض أهل القرية يلاحظون تغيرًا في حياة حسان. ملابسه أصبحت أجود، طعامه أكثر تنوعًا، ومع ذلك لم يتغير في طباعه. إلا أن هناك من لم تعجبه هذه الرفاهية المفاجئة، وأخذ الشك يملأ قلبه. فهد، أحد الصيادين المعروفين بطمعهم وتهورهم، قرر أن يكتشف سر حسان.
تتبع فهد خطواته، واختبأ خلف الأشجار لمراقبته. وفي الليلة التي عاد فيها حسان إلى المكان الذي وجد فيه الفخ، تبعه فهد بصمت. وعندما رحل حسان، بدأ فهد بنصب فخ أكبر وأقوى، مستخدمًا الحديد المقوى والسلاسل، متخيلًا أنه سيصطاد نفس المخلوق، أو ربما شيئًا أعظم.
لكن فهد لم يكن يعلم أن الغابة لا تكافئ الطامعين، بل ترفضهم.
الدرس القاسي
في الصباح التالي، عاد فهد إلى موقع الفخ وهو يتخيل الكنز الذي سيجده، لكنه صُدم برؤية الفخ محطمًا تمامًا. لم يكن محطمًا عشوائيًا، بل كأن أحدهم فككه بعناية ثم تركه كومة من الخردة. وعلى قطعة من الحديد، كانت هناك ورقة كتب عليها: "الغابة لا تُعطي لمن يُخطط للسرقة."
بعد تلك الحادثة، بدأ حظ فهد ينقلب رأسًا على عقب. انكسر قوسه في أول محاولة صيد، وأصاب نفسه بالخطأ أثناء إعداد فخ جديد. وفوق كل ذلك، بدأت الحيوانات تهرب من صوته، كأنها أصبحت تحذره.
أما حسان، فظل يمشي في الغابة كما كان دومًا، بتواضعه المعتاد، وكأن شيئًا لم يتغير.
حكمة الصياد الذكي
مرت سنوات، وكبر حسان، لكن قصته لم تُنس. حكاية "الصياد الذكي" أصبحت تُروى كل ليلة حول نار المخيم، ليست كقصة بطولية عادية، بل كدرس عميق في الحكمة والرحمة.
كان أبناء حسان أكثر فخرًا به مما لو كان ملكًا. علمهم كيف يصيدون، وكيف يراقبون حركة النسيم، وكيف يفهمون لغة الطيور. لكن قبل كل شيء، علمهم أن القوة الحقيقية ليست في السهم أو في الفخ، بل في الرحمة التي تُنقذ، لا التي تُؤذي.
واليوم، لا تزال الغابة تحمل آثار خطوات حسان، وتهمس في آذان من يصغون: "كن كالصياد الذكي، ترَ الحياة تمنحك أعظم مما تحلم به."