في كل مجتمعٍ، تتشابك مصائر الناس بين الغنى
والفقر، وبين الحاجة والوفرة. البعض يعيش في رخاءٍ وطمأنينة، بينما يعاني آخرون في
صمتٍ، يكافحون من أجل لقمة العيش. في مثل هذه الظروف، لا يكون العدل مجرد تطبيقٍ
صارمٍ للقوانين، بل يمتزج بالحكمة والرحمة، ليحقق التوازن بين الحق والإنصاف.
في بلدةٍ صغيرةٍ، كان الناس يعيشون حياةً
بسيطةً، يعملون في الأسواق، ويتعاونون في السراء والضراء. لكن كما هو الحال في أي
مجتمع، لم يكن الجميع متساوين في حظوظهم، فهناك من يملك ما يكفيه وزيادة، وهناك من
يكافح ليجد قوت يومه. في قلب هذا المجتمع، كان هناك رجلٌ بارزٌ بعدله وحكمته،
يعرفه الجميع باسم القاضي فاضل. لم يكن مجرد قاضٍ يصدر الأحكام، بل كان رمزًا
للعدل والإنسانية، يستمع إلى الجميع، ويحاول دائمًا تحقيق التوازن بين تنفيذ
القانون ومراعاة الظروف الإنسانية.
لكن ذات يوم، وقعت حادثةٌ بسيطة في ظاهرها،
لكنها كشفت عن معاناةٍ مخفية، وأثارت تساؤلاتٍ عميقة حول معنى العدل، وكيف يمكن
تحقيقه دون أن يكون قاسيًا أو متجردًا من الرحمة. كانت هذه الحادثة تتعلق برجلٍ
فقيرٍ يُدعى سالم، ودجاجةٍ أصبحت محور جدلٍ بين أهل البلدة. ما حدث لم يكن مجرد
سرقةٍ عابرة، بل كان بدايةً لقصةٍ تعلم منها الجميع درسًا لا يُنسى.
هذه هي قصة "دجاجة القاضي"، حكايةٌ
عن الجوع والعدل، عن الرحمة والمسؤولية، وعن كيف يمكن لحادثةٍ صغيرةٍ أن تغيّر
مجتمعًا بأكمله.
قصة دجاجة القاضي
في بلدةٍ صغيرةٍ هادئة، حيث يعرف جميع الناس
بعضهم بعضًا، عاش قاضٍ حكيمٌ يُدعى فاضل. كان هذا القاضي معروفًا بين أهل البلدة
بعدله ونزاهته، فلم يكن يفرق بين غني وفقير، ولا بين قوي وضعيف، بل كان دائمًا
يحكم بما يمليه عليه ضميره وميزان العدالة. كان الناس يثقون به ثقةً مطلقة، ويأتون
إليه من كل حدبٍ وصوبٍ ليفصل بينهم في نزاعاتهم ويعيد الحقوق إلى أصحابها. وبفضل
حكمته، عمّ العدل والأمان في البلدة، ولم يكن أحد يجرؤ على ارتكاب الظلم أو التعدي
على حقوق الآخرين، لأنهم يعلمون أن القاضي فاضل لا يتهاون مع الظلم مهما كان بسيطًا.
حادثة السوق
في أحد الأيام المشمسة، كان رجلٌ فقيرٌ يُدعى
سالم يتجول في السوق بخطواتٍ متثاقلة، يبحث عن عملٍ يقتات منه ويكسب به قوت يومه.
كان سالم أبًا لثلاثة أطفال صغار، وزوجًا لامرأة مريضة، ولم يكن يملك مالًا يكفي
لسد رمقهم، فكان في ضيقٍ شديدٍ لا يعلمه إلا الله. وبينما كان يسير وسط السوق، رأى
متجرًا يعرض دجاجًا سمينًا، ورائحة الطهي الشهية تتصاعد في الهواء، تملأ المكان
وتثير شهيته التي لم تشبع منذ أيام.
وقف سالم أمام المتجر ينظر إلى الدجاجة بلهفة،
وتخيل أطفاله الجياع يلتفون حول المائدة أخيرًا بعد أيامٍ من الحرمان. شعر بغصةٍ
في قلبه، وأراد أن يشيح بنظره بعيدًا، لكن الجوع كان أقوى منه. وبينما كان صاحب
المتجر مشغولًا مع زبون آخر، امتدت يده دون وعيٍ إلى إحدى الدجاجات الموضوعة على
الطاولة، وسرعان ما وضعها تحت عباءته وبدأ يسير بسرعةٍ ليبتعد عن المكان قبل أن يراه
أحد.
لكن سوء الحظ كان له بالمرصاد، إذ لمح صاحب
المتجر طرف عباءته المرفوع، فانتبه إلى الدجاجة المفقودة، وصرخ بأعلى صوته: أيها اللص! أمسكوه! لقد سرق دجاجة القاضي.
كان ذكر اسم القاضي كفيلًا بإثارة ضجة كبيرة في
السوق، إذ وقف جميع الناس ينظرون حولهم بحثًا عن السارق. وما هي إلا لحظات حتى
طاردوه وأحاطوا به في أحد الأزقة الضيقة، حيث لم يجد سالم مهربًا، ووجد نفسه
محاصرًا بعشرات العيون الغاضبة التي تحدق فيه.
أمام القاضي
في صباح اليوم التالي، اجتمع أهل البلدة في
قاعة المحكمة، حيث وقف سالم أمام القاضي فاضل، مطأطئ الرأس وعيناه تملؤهما الحسرة
والندم. كان يدرك أنه ارتكب خطأً، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يجد سبيلًا آخر
لإطعام أطفاله الجائعين.
جلس القاضي فاضل في مكانه المعتاد، ونظر إلى
سالم نظرةً طويلة، ثم قال بصوتٍ هادئٍ ولكنه صارم: أخبرني يا سالم، لماذا
سرقت الدجاجة؟ ألم تكن تعلم أن السرقة فعلٌ محرمٌ يعاقب عليه القانون؟
ارتجف صوت سالم وهو يجيب:
نعم، أعلم ذلك يا سيدي القاضي، وأقسم أنني لم
أكن أنوي السرقة، لكني رجل فقيرٌ، وأطفالي لم يذوقوا طعامًا منذ أيام. كنت أبحث عن
عملٍ في السوق، لكنني لم أجد، وعندما رأيت الدجاجة أمامي، لم أتمالك نفسي، وسرقتها
بدافع الجوع واليأس.
ساد الصمت في القاعة، وراح الناس يتهامسون فيما
بينهم. بعضهم شعر بالشفقة تجاه سالم، بينما رأى آخرون أن القانون يجب أن يُطبّق
بغض النظر عن الظروف. لكن القاضي لم يتسرع في الحكم، بل أشار إلى مساعده، وطلب منه
أن يذهب إلى بيت سالم ويتحقق بنفسه من حالته المعيشية.
التحقيق في وضع سالم
ذهب المساعد إلى بيت سالم، وعاد بعد ساعات
قليلة وهو يحمل أخبارًا حزينة. وقف أمام القاضي وقال بحزن: يا سيدي القاضي، بيت سالم
لا يصلح للعيش، فهو مجرد كوخٍ صغيرٍ بالكاد يحمي من البرد، وأطفاله ينامون على
الأرض بلا غطاء، ولم يكن هناك أي طعام في المنزل. حتى زوجته مريضة ولا تستطيع
الحركة، وسالم هو المعيل الوحيد لهم.
عند سماع هذه الكلمات، تغيرت تعابير وجوه أهل
البلدة، وشعروا بالذنب لأنهم كانوا يرون سالم كل يوم في السوق، لكن لم يفكر أحدٌ
منهم في مساعدته أو حتى سؤاله عن حاله.
الحكم العادل
تنهد القاضي فاضل بعمق، ثم نهض من مكانه وقال
بصوتٍ قويٍ وحازم:
إن السرقة جريمة، ولا شك في ذلك، ولكن الجوع ليس ذنبًا يُحاسب
عليه المرء وحده. سالم أخطأ، لكنه أخطأ لأنه لم يجد من يسأله عن حاله أو يساعده في
محنته. لذا، فإن حكمي هو التالي: سالم لن يُعاقب بالسجن، بل سيعمل في بستان
المحكمة لمدة شهرٍ كامل، وبعد ذلك سأعطيه دجاجةً من مال المحكمة، حتى يأكلها هو
وأطفاله بالحلال. ولكن هذا ليس كل شيء.
التفت القاضي إلى أهل البلدة وقال بلهجةٍ صارمة: كما أن على سالم أن يعمل ليكسب رزقه بالحلال، فإن على أهل السوق أن
يتحملوا مسؤوليتهم تجاه الفقراء والمحتاجين في بلدتهم. لذا، أطلب من كل تاجر أن
يخصص جزءًا صغيرًا من أرباحه كل أسبوعٍ لمساعدة الفقراء، حتى لا يُضطر أحدٌ إلى
السرقة بسبب الجوع بعد اليوم.
تغيير في البلدة
خرج سالم من المحكمة وهو يشعر بالامتنان
العميق، وعمل بجدٍ وإخلاص في بستان المحكمة. كان سعيدًا لأنه حصل على فرصة لتصحيح
خطئه، ولم يخيب ثقة القاضي، بل كان أول من يذهب إلى العمل وآخر من يغادر. وعندما
أنهى الشهر، أعطاه القاضي الدجاجة التي وعده بها، لكنه هذه المرة أخذها بفخرٍ،
لأنها كانت نتيجة جهده وكدّه، وليس بفعل السرقة.
أما أهل السوق، فقد تأثروا بحكمة القاضي،
وبدأوا بالفعل في إنشاء صندوقٍ خيري لمساعدة الفقراء، وأصبح التجار يتنافسون في
فعل الخير. ومع مرور الوقت، لم يعد هناك جائعٌ في البلدة، وأصبح الجميع متعاونين
كعائلةٍ واحدة.
وهكذا، انتشرت قصة "دجاجة القاضي" في
كل مكان، وأصبحت درسًا خالدًا عن العدل الممزوج بالرحمة، وعن أهمية أن يتكاتف
الناس مع بعضهم البعض حتى لا يُترك أحدٌ يعاني في صمت.
إقرأ أيضا: